تاريخ العلاقات الدولية حافِل بالتغيُّرات الكبرى في التحالفات بين الدول، ليست الأيديولوجيا أو القِيَم هي ما يُحدّد علاقات الدول، بل المصالح. وأثبتت الأحداث الكبرى أن ما كان يبدو مستحيلًا في لحظةٍ، قد يُصبح تحالفًا ضروريًّا في لحظةٍ أخرى؛ لأنّ التحالفات الإستراتيجية تَخْضع لحسابات متغيرة مرتبطة بالخطر المشترك، والمصالح الاقتصادية، والبيئة الجيوسياسية. ومع التبدُّل السريع في موازين القوى العالمية، لم يَعُد غريبًا أن يشهد العالم تقاربًا أمريكيًّا روسيًّا، في وقتٍ كان يُفتَرض فيه أن تبقى الخصومة بينهما قائمة. المشهد يتغيَّر لأنّ مراكز القوة نفسها تتغيَّر، والتهديدات الجديدة تَدْفع لاعبي السياسة الدوليين لإعادة رسم خرائطهم وتحالفاتهم.
من العداء التاريخي إلى تحالف الضرورة
في عام 1917م، تحوَّلت روسيا إلى قوة شيوعية، وشكَّلت تهديدًا مباشرًا للغرب. لكن في عام 1939م، تحوَّل هذا العداء إلى تحالُف مُؤقَّت بين موسكو وواشنطن ضد عدوّ مشترك؛ دول المحور بزعامة ألمانيا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاد التوتر، وامتدَّ إلى اليوم. وحاليًّا، يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه، ولكن في اتجاه مختلف. هناك إشارات واضحة إلى تقارب أمريكي روسي جديد، بدأ يظهر من خلال تخفيف اللهجة الأمريكية تجاه روسيا في أوكرانيا، والتعامل معها كطرف صراع وليس كعدو.
ترامب يغيّر قواعد اللعبة… الصين العدو الجديد
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يُخفي نظرته إلى الصين باعتبارها التهديد الحقيقي لمصالح أمريكا. من هنا بدأ بإعادة ترتيب التحالفات الدولية. وبدأ الأمر بفرض رسوم جمركية على بكين، ويسعى لعزلها تجاريًّا ودبلوماسيًّا. في المقابل، يُقدِّم لروسيا حوافز مباشرة، منها إنهاء الصراع في أوكرانيا لصالح موسكو، وغضّ الطرف عن التمدُّد الروسي في الشرق الأوسط، وخاصةً في سوريا وليبيا، بل وحتى القبول ببقاء القواعد العسكرية الروسية في الساحل السوري. هذه السياسة تستند إلى فكرة قديمة بصيغة جديدة: “عكس كيسنجر”، أي محاولة عزل الصين كما عُزِلَ الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي.
روسيا مستعدة للصفقة… بشرط المكاسب
من جانبها، لا تمانع موسكو من الدخول في صفقة كبرى مع واشنطن. روسيا لم تكن يومًا حليفًا إستراتيجيًّا للصين، بل تربطها بها خلافات تاريخية عميقة، بعضها تطوَّر إلى توترات عسكرية كما حصل في عام 1969. كما أن موسكو قَلِقَة من هيمنة الصين الاقتصادية؛ لأن اقتصادها أكبر من الروسي بعشر مرات، ومشروع الحزام والطريق يُهدّد بتحييد الدور الروسي في آسيا وأوروبا. وكذلك لا تَعتبر روسيا إيران حليفًا دائمًا، بل أداة تفاوض قابلة للتخلّي عنها. في حال قدمت واشنطن ضمانات واضحة، موسكو قد تكون مستعدة للانسحاب من ملفات الشرق الأوسط مقابل إطلاق يدها في أوكرانيا وإفريقيا.
تحوُّلات كبرى… وإستراتيجية أمريكية جديدة
التحوُّل الأمريكي لا يقتصر على الصين وروسيا فقط، بل يشمل أوروبا نفسها. ترامب يرى أن دعم أوكرانيا كلَّف واشنطن 300 مليار دولار دون مردود حقيقي، ويَعتبر الناتو عبئًا يجب التخلُّص منه أو تقليصه. من هنا تظهر نية أمريكية للانسحاب من التحالفات القديمة، والتعامل فقط مع الشركاء القادرين على تقديم فائدة مباشرة. وهذا يعكس إدراكًا أمريكيًّا أن أوروبا لم تَعُد قوة اقتصادية أو عسكرية فاعلة، بينما تواصل قوى الشرق الصعود السريع، بقيادة مجموعة “بريكس”.
التقارب الأمريكي الروسي -إن حدَث- قد يفتح باب الاستقرار في الشرق الأوسط، وحلّ ملفات إيران، والحوثيين، وحتى القضية الفلسطينية. لكنّه في المقابل سيزيد التوتر في آسيا، وخاصةً في تايوان. وقد يكون مقدّمةً لتشكيل نظام عالمي جديد، يُوزّع الأدوار على أساس المصلحة، وليس على أساس التاريخ أو الأيديولوجيا.