شَارِك المَقَال

منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، شهد العالم تغيُّرات جذرية في شكل العلاقات الدولية، لا سيما في علاقة واشنطن بالمنظمات الدولية. وتتَّجه نحو الانعزال عن المنظومة الدولية، ما يُمثّل تحولًا إستراتيجيًّا في السياسة الأمريكية، عما كانت عليه طيلة عقود. وتتجه واشنطن إلى فكّ ارتباطها بالمنظمات الدولية، ما يُهدّد بتفكيك النظام الدولي، ويدفع نحو نظام عالمي جديد أكثر اضطرابًا.

 

انسحابات غير مسبوقة وأثرها في فعالية المؤسسات الدولية
لم تكتفِ إدارة ترامب بانتقاد المؤسسات الدولية، بل قامت بخطوات عملية تمثَّلت في الانسحاب من عدد منها؛ فانسحبت من منظمة الصحة العالمية، ومن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومن اتفاق باريس للمناخ، ومنظمة اليونسكو، وفرضت عقوبات على مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية. حتى وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” أوقفت واشنطن تمويلها، وبدأت بإعادة النظر في تمويلها للأمم المتحدة، التي كانت تُموِّلها بما يقارب 18 مليار دولار سنويًّا، ما يعادل ثلث ميزانيتها تقريبًا. هذه الانسحابات والضغوط المالية أضعفت قدرة هذه المؤسسات على العمل، وفتحت المجال أمام قوى دولية أخرى لسدّ الفراغ.

 

الصين تملأ الفراغ وتُوسِّع نفوذها
بينما تنسحب واشنطن من المنظمات الدولية، تُسارع الصين إلى تعزيز حضورها. وبعد انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية، قدَّمت بكين مليار دولار دعمًا للمنظمة، ما جعلها المُموِّل الأول لها. كما رفعت الصين من مساهماتها في عدة مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، وبدأت بالتأثير في أجنداتها. هذا التحرُّك الصيني لم يكن فقط بديلًا ماليًّا، بل تحوَّل إلى نفوذ سياسي يُعزّز دور بكين على الساحة الدولية. وبينما تقلَّصت الهيمنة الأمريكية على المؤسسات العالمية، ازدادت قدرة الصين على صياغة النظام الدولي وفق مصالحها الخاصة.

 

أوروبا بين نارين: خيبة الحليف وضياع البديل
أوروبا من أكثر المتأثرين من الانسحاب الأمريكي؛ إذ لم تَعُد واشنطن تنظر إلى الأوروبيين كشركاء إستراتيجيين، بل كعبء اقتصادي وسياسي، وهو ما ظهر من خلال فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الأوروبية، والتلويح بتقليص أو إنهاء دور أمريكا في حلف الناتو.

وفي ظل هذه الأزمة، تجد أوروبا نفسها عاجزة أمام التهديدات الروسية، وتواجه أزمات اقتصادية صعبة. ومع ضعف الثقة في الحليف الأمريكي، قد تتجه أوروبا للبحث عن شراكة إستراتيجية جديدة، والصين تبدو خيارًا واقعيًّا، خاصةً مع ازدهار اقتصادها وقدرتها على توفير الدعم المالي والتقني.

 

عالَم متعدّد الأقطاب وفوضى سياسية
الانسحاب الأمريكي من المنظمات الدولية لا يعني فقط تراجُع الدور الأمريكي، بل يحمل مؤشرات خطيرة على مستقبل النظام العالمي. هذه المؤسسات تُشكّل أدوات تنظيم للعلاقات الدولية، وغياب الثقل الأمريكي عنها قد يؤدي إلى ضعفها أو انهيارها. في التاريخ، تكررت حالات مشابهة، أبرزها انسحاب ألمانيا من عصبة الأمم عام 1933م، وما تبعه من دخول العالم في الحرب العالمية الثانية بعد سنوات قليلة. لذلك، فالتخلي الأمريكي عن قيادة المنظمات الدولية قد يفتح الباب أمام فوضى سياسية قد تنتهي بصدام عسكري.

 

توفير التكاليف كان أحد مبررات إدارة ترامب، لكنّ الحقيقة أن واشنطن خسرت أكثر مما وفَّرت. فالنفوذ الذي كانت تمتلكه عبر هذه المؤسسات الدولية بدأ يتآكل، في مقابل صعود قوى جديدة على رأسها الصين. استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى عزلة أمريكية غير مسبوقة، وتفكك للتحالفات التقليدية، وتغيير جذري في خريطة العلاقات الدولية.
العالم يتغيّر، ومَن لا يتأقلم مع هذه التغيرات، قد يجد نفسه خارج دائرة التأثير.

 

شَارِك المَقَال



المنشورات ذات الصلة