لا يمكن لأيّ انتعاش اقتصادي حقيقي أن يتحقّق دون استقرار نقديّ واضح ومتين، فالعُملة الوطنية ليست فقط أداة للتبادل، بل مرآة تعكس صحة الاقتصاد وثقة الناس به. وفي سوريا، تُعتَبر الليرة اليوم أحد أبرز مؤشرات التحدّي؛ إذ لا تزال تُواجه تذبذبًا حادًّا في قيمتها، ما يُعطّل كثيرًا من النشاطات الاقتصادية ويُضْعِف ثقة الناس بأيّ تحسُّن مُرتَقب. ومع أن التحسُّن النسبي في سعر الصرف هو خطوة جيدة، إلا أنّ هشاشته وسرعة تراجُعه تدل على غياب الأُسس المتينة التي يجب أن تقوم عليها السياسة النقدية، ما يجعل الحلول المتاحة محدودة ومُحمَّلة بكُلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة.
الليرة السورية: تحسُّن رقمي بلا استقرار فِعْلي
خلال الأشهر الماضية، استعادت الليرة السورية نحو 30% من قيمتها مقارنةً بالفترة التي سبقت تحرير القرار الاقتصادي؛ إلا أنها ما زالت عند مستويات متدنية جدًّا. فالدولار يُتداول حاليًّا عند حدود 11,500 ليرة، ما يعني أن أعلى ورقة نقدية متداولة، وهي فئة 5,000 ليرة، لا تتجاوز قيمتها 40 سنتًا، وهذا يجعل التداول النقدي اليومي أمرًا مُرهقًا ومُعقَّدًا. على سبيل المثال، شراء سيارة بقيمة 5,000 دولار يتطلب دَفْع حوالي 60 مليون ليرة، أي ما يعادل 12,000 ورقة نقدية. هذا التحدّي يَضُرّ ليس فقط بالأفراد، بل يُعطِّل التجارة ويُسبّب إرباكًا واسعًا في التعاملات الاقتصادية.
حلّ الطباعة: مُعالَجة شكلية مُكلّفة
أحد الحلول المطروحة هو طباعة أوراق نقدية من فئات أكبر، مثل 10,000 و25,000 و50,000 ليرة، بهدف تسهيل التداول وتقليل الحاجة لكمية ضخمة من النقود الورقية؛ إلا أن هذا الحل، رغم بساطته الظاهرة، يحمل في طياته تحدّيات عميقة.
أولًا، تكلفة الطباعة المرتفعة تمثل عبئًا ماليًا كبيرًا؛ إذ تصل تكلفة طباعة الورقة الواحدة إلى نحو 20 سنتًا، ما يعني أن إصدار هذه الفئات الجديدة قد يُكلِّف الدولة نحو 100 مليون دولار، وهو رقم يصعب توفيره في ظل الأزمة المالية الحالية.
ثانيًا، هذا النوع من الحلول قد يُؤدّي إلى زيادة التضخُّم؛ لأن ضخّ كميات أكبر من النقود في السوق دون زيادة موازية في الإنتاج أو النمو قد يُسرِّع انهيار قيمة العملة مجددًا، ويُعيد البلاد إلى سيناريوهات خطيرة شبيهة بما حدث في فنزويلا.
حلّ الاستبدال: خيار مناسب في توقيت غير مناسب
الحل الثاني يتمثّل في استبدال الليرة الحالية بعملة جديدة؛ من خلال حذف صفرين أو ثلاثة من العملة، بحيث تصبح كل ألف ليرة تساوي ليرة واحدة جديدة. هذا الحل يحمل أبعادًا إيجابية كثيرة، منها تسهيل العمليات الحسابية، واستبدال الرموز البصرية المرتبطة بالنظام السابق، إضافةً إلى إعطاء إشارة سياسية واقتصادية على بداية جديدة. لكن هذا الحل، رغم جاذبيته النظرية، ليس عمليًّا في الوقت الراهن. طالما أن التضخُّم ما يزال مرتفعًا، فإن أيّ عملية استبدال للعملة ستؤدي لاحقًا إلى عودة التدهور، ما يعني ضياع كامل الجهد، والعودة إلى المربع الأول. لذلك من الضروري تأجيل هذا الخيار إلى حين توافر شروط الاستقرار الاقتصادي الحقيقية.
الأولوية للسيطرة على التضخم
قبل البحث عن حلول نقدية فنية، يجب أولًا معالجة جوهر المشكلة، وهي ارتفاع معدل التضخم. فكل السياسات النقدية والمالية، وحتى محاولات إعادة هيكلة العملة، لن تنجح ما لم يتم أولًا ضبط الأسعار، وزيادة الإنتاج، وتقليل الاعتماد على الاستيراد. ومن هنا، فإن الطريق إلى ليرة مستقرة يَمُرّ عبر إصلاح شامل للبيئة الاقتصادية؛ من دعم الصناعة، وتوفير الطاقة، وتحفيز الصادرات، وجذب الاستثمارات، إلى تطوير النظام المصرفي وتمكينه من القيام بدوره في تمويل النشاط الاقتصادي.