بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعُد قوة وتهديد الاتحاد السوفييتي؛ قام الغرب بتأسيس حلف شمال الأطلسي “الناتو” عام 1949م. فرَدَّ المعسكر الشرقي عام 1955م بتأسيس حلف وارسو بقيادة موسكو، لكنّه انهار عام 1991م بانهيار الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، استمر الناتو، بل وتوسَّع بانضمام دول جديدة من أوروبا الشرقية، نتيجة استمرار التهديدات الجيوسياسية.
اليوم، يواجه الناتو تحديات عميقة تُهدّد مستقبله، ما يُثير تساؤلات جدية حول مصيره، ومدى إمكانية تكرار تجربة حلف وارسو.
العبء الأمريكي وعدم التوازن في التمويل والقدرات
أحد أبرز التحديات التي تُهدّد الناتو اليوم هو العبء المالي والعسكري الذي تتحمَّله الولايات المتحدة مقارنةً ببقية الدول الأعضاء؛ حيث تبلغ ميزانية الناتو السنوية نحو 1,5 تريليون دولار، وتتحمَّل أمريكا وحدها 66% من هذه التكلفة. كما تمتلك ثلث القوة العسكرية للحلف بعدد يقارب 1,2 مليون جندي من أصل 3.5 مليون.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبَّر مرارًا عن استيائه من هذه المعادلة، مؤكدًا أن واشنطن لا تستفيد من الحلف، بل تُنفق عليه دون مقابل. وفي حال قرر ترامب تنفيذ تهديده وسحب أمريكا من الحلف، فإن الهيكل الكامل للناتو مُهدَّد بالانهيار؛ لأن غياب العمود الفقري لا يمكن تعويضه في المدى القصير، خاصةً مع ضعف جاهزية الجيوش الأوروبية.
تفكُّك داخلي وخلافات إستراتيجية
الخلافات السياسية والاقتصادية بين دول الحلف تزداد تعقيدًا؛ فالرسوم الجمركية التي فرَضها ترامب على أوروبا بنسبة 20% عكست نظرة واشنطن لدول الحلف كخصوم اقتصاديين لا حلفاء إستراتيجيين. كما أن الموقف الأمريكي من الحرب الأوكرانية أظهر ضعف التنسيق داخل الحلف؛ حيث بدأت الدول الأوروبية تُدْرِك أن مصالح أمريكا قد لا تتطابق دائمًا مع أولوياتها، خاصةً بعدما ظهرت إشارات بأن واشنطن تسعى إلى إنهاء الحرب بشكل منفصل، ما يعكس تباينًا في الرؤى وغياب وحدة القرار. وقد دفع هذا الأمر بريطانيا وألمانيا، وهما من أكبر أعضاء الناتو، إلى توقيع اتفاق دفاع مشترك خاص، في خطوة غير مألوفة داخل إطار الحلف، تعكس انعدام الثقة المتزايد في الموقف الأمريكي.
صعود التيارات القومية وتأثيرها على التضامن الدفاعي
من التحديات التي تُضعف بنية الناتو تصاعد النزعة القومية في أوروبا، خاصةً مع صعود اليمين المتطرف في عددٍ من دول القارة؛ ففي فرنسا وإيطاليا حصلت الأحزاب اليمينية على نحو 30% من الأصوات، وفي ألمانيا تجاوزت النسبة 15%. هذا الاتجاه السياسي يُعزّز التوجهات الانعزالية، ويُقلّل من أهمية التحالفات الجماعية مثل الناتو، ويُعيد الأذهان إلى ما كان سائدًا في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، عندما كانت كلّ دولة تبحث عن مصالحها الخاصة.
هل أوروبا جاهزة للمستقبل بدون الناتو؟
في حال تفكّك الناتو، من المتوقع أن تبحث أوروبا عن بدائل مثل اتفاقيات دفاع مشترك إقليمية، لكن الحقيقة أنّ معظم الدول الأوروبية لم تُطوِّر جيوشها بالقدر الكافي، وكانت تعتمد لعقود على المظلة الأمريكية. فعدد الجنود في ألمانيا -على سبيل المثال- لا يتجاوز 180 ألفًا، وميزانية الدفاع فيها متواضعة. كما أن الأزمات الاقتصادية وأعباء الديون تجعل من الصعب تخصيص موارد كافية لتحديث الجيوش وتطوير أنظمة التسليح. وهذا يفتح الباب أمام خطر كبير على القارة الأوروبية، خاصةً في ظل استمرار التهديد الروسي والنزاعات الإقليمية الأخرى.
يبدو أن الناتو، رغم صموده لسبعة عقود، يواجه اليوم تحديات وجودية شبيهة بتلك التي أطاحت بحلف وارسو. التفاوت في الأعباء، وتزايد الخلافات السياسية والاقتصادية، وصعود القومية، وتراجع الثقة بالموقف الأمريكي؛ كلّها مؤشرات على تفكُّك محتمل. وإذا لم يتم إصلاح هيكل الحلف وتحديث رؤيته، فقد يكون مصيره الانهيار في مرحلة ما، ما يفتح الباب أمام إعادة رسم خريطة التحالفات في العالم.