شَارِك المَقَال

تشهد إيران كل عدة سنوات مظاهرات واسعةً تتعدد أسبابها بين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. آخرها المظاهرات الحالية التي اتسعت رقعتها لتشمل مدناً عدة. وعلى الرغم من أن السبب المباشر لهذه المظاهرات يعود لقضايا حقوق الإنسان وحادثة وفاة “مهسا أميني”. إلا أن الأسباب الاقتصادية كانت حاضرةً بقوة في هذه المظاهرات. وبشكل عام يعد الفهم الدقيق للأسباب الحقيقية لهذه المظاهرات مدخلاً رئيساً لفهم مستقبلها وتوقع نتائجها.

 

ما الواقع الاقتصادي في إيران حالياً؟

في الواقع تشهد إيران منذ عدة سنوات عقوبات اقتصادية حادة. وذلك بعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي عام 2018م. وتسببت هذه العقوبات بتراجع حاد في مختلف المؤشرات الاقتصادية والجزئية. وتعزز هذا الواقع في ظل أزمة كورونا. ولاحقاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية. وهو ما ضاعف الضغوط الاقتصادية على الحكومة الإيرانية وعلى الإيرانيين.

من جهة أخرى سبّبت العقوبات الغربية تجميد أرصدة إيرانية ضخمة في البنوك الإيرانية. وسببت تراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب 30% من قيمته عام 2012م. وفقد الريال الإيراني 58%% من قيمته. وارتفع التضخم إلى أرقام قياسية. فبلغ 54% في شهر يونيو الفائت على أساس سنوي. وارتفعت أسعار السيارات بنسبة 30%. وأسعار العقارات بنسبة 70%. وخسرت البورصة 20% من قيمة أسهمها.

في ظل هذه الضغوط الاقتصادية اضطرت الحكومة الإيرانية لسياسة تقشفية. كترشيد الإنفاق الحكومي ورفع الدعم عن بعض السلع. وذلك بهدف تقليل العجز في الموازنة العامة للدولة. إلا أن هذه السياسة التقشفية أدت لأزمات اجتماعية.

وحتى مع زيادة المساعدات الحكومية للشرائح الفقيرة من 450 ألف ريال إيراني. أي ما يعادل 10.63 دولاراً إلى 4 ملايين ريال (94.5 دولار) عقب إلغاء الدعم. إلا أن ارتفاع التضخم بنسب تجاوزت 50% التَهَم كل تلك الإعانات. خاصةً في ظل الأزمة الغذائية التي يعاني منها العالم أجمع.

 

ما الواقع الاجتماعي في إيران حالياً؟

لا يمكن فصل المؤشرات الاقتصادية عن الاجتماعية في أي دولة. فالواقع الاقتصادي المتردي في إيران انعكس بشكل مباشر على المؤشرات الاجتماعية في البلاد. فأكثر من 40 مليون شخص تحت خط الفقر. ونسبة البطالة في بعض المدن تصل إلى 60%. وعدد مدمني المخدرات يُقدّر بـ 1,5 مليون شخص. إضافةً لوجود 600 ألف سجين بجرائم سرقة دافع أغلبها كان الفقر والجوع.

هذا الواقع الاجتماعي المتردي والمرشح للمزيد من التفاقم ساهم في خلق أزمات اجتماعية. غالبيتها كامنة. فالاستقرار الاجتماعي الظاهر في إيران يمكن وصفه بالاستقرار الهش والقسري. فالخوف من القبضة الأمنية هو ما يعطي إيحاءً بالاستقرار الاجتماعي في البلاد. وهذا الاستقرار الهش ينهار عند أول اختبار حقيقي له.

الاستقرار الاجتماعي الهش قاد بدوره لاستقرار سياسي هش أيضاً. لا سيما في ظل ارتفاع الأصوات المنتقدة للسياسات الحكومية التي تنفق الأموال في سوريا ولبنان واليمن. بينما المؤشرات الاقتصادية الوطنية متردية. أضف إلى ذلك تراجعاً حاداً في واقع حقوق الإنسان في البلاد. ولذلك كانت لوفاة  “مهسا أميني” أثر اجتماعي وسياسي.

 

ما المستقبل الاقتصادي والاجتماعي في إيران؟

من غير المتوقع أن تشهد المؤشرات الاقتصادية في إيران انفراجات حقيقية في المدى المنظور. فحتى في حال العودة للاتفاق النووي فإن تحسن الواقع الاقتصادي يحتاج لعدة سنوات ليبدأ بالظهور بشكل ملموس. وهذا ما يقود للقول بأن الواقع الاجتماعي هو الآخر لن يشهد انفراجات حقيقية أيضاً. وهذا ما يعني أن البيئة المهيأة للتظاهرات والاحتجاجات ستبقى موجودة.

في حال عدم العودة للاتفاق النووي من المتوقع أن تزداد حدة التوترات الاجتماعية والسياسية في البلاد على خلفية اقتصادية. وهنا قد تراهن الحكومة الإيرانية على تصاعد التوتر العالمي. وبالتالي ارتفاع أسعار النفط وهو ما يعني زيادة في إيراداتها. كما تراهن على الكساد الأمريكي المتوقع. والذي قد يقود بشكل غير مبشر لتقليل الضغط الاقتصادي الأمريكي على إيران.

إن الاحتجاجات الشعبية عقب وفاة “مهسا أميني” تعد نتيجةً لتراكمات حقوقية واقتصادية واجتماعية وسياسية. وهذا ما يعني أنه في حال انتهاء هذه الاحتجاجات -وهو المرجح- من المتوقع أن تشهد البلاد مستقبلاً احتجاجات أخرى. فالأمر يتعلق بمعالجة الأسباب الجذرية لها والتي تقوم في جوهرها على أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى.

إن معالجة الواقع الاقتصادي الإيراني على المستوى الكلي والجزئي لن يتم بالشكل المطلوب دون وجود إصلاحات سياسية حقيقية. لا سيما على المستوى الخارجي. فاستمرار السياسة الخارجية الإيرانية الحالية يعني استمرار الضغوط الغربية عليها. وبالتالي استمرار التوتر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الداخلي.

شَارِك المَقَال