شَارِك المَقَال

ضجت الأنباء بما سمي بأكبر عملية احتيال في تاريخ الدولة التركية. فمؤسس شركة ثوديكس وهي إحدى منصات تداول العملات الرقمية فر خارج البلاد بعد اختلاسه أكثر من ملياري دولار أمريكي. فما دلالات هذا الأمر وما انعكاساته على السوق التركي وهل من دروس يمكن التعلم منها؟

 

ظروف وأسباب الاحتيال

شركة ثوديكس هي منصة تركية لتبادل العملات الرقمية تم إنشاؤها عام 2017م من قبل شاب تركي. ويعتبر سوق العملات الرقمية من الأسواق الرائجة ويزداد الإقبال عليه يوماً بعد يوم نتيجة الزيادة الكبيرة في قيم العملات الإلكترونية. وهنا ليس المهم كيفية حصول الاحتيال؛ إذ له طرق عديدة ومبتكرة دائماً. لكن الأهم لِم يقع الناس دائماً ضحية للاحتيال؟

 

في الحقيقة يعتبر الرقم الذي تم اختلاسه رقماً ضخماً فملياري دولار رقم على مستوى دول. وهذا ما يوضح فداحة الخسارة التركية على مستوى الدولة والأفراد. خاصةً أن غالبية المستثمرين في العملات الرقمية هم من الطبقة الوسطى الذين يبحثون عن مصادر دخل لتحسين واقعهم الاقتصادي والاجتماعي.

 

لهذا السبب ازداد معدل الاستثمار في العملات الرقمية في كل دول العالم في السنوات القليلة الماضية. وعلى وجه الخصوص في السنة الفائتة نتيجة الأرباح الضخمة التي حققتها العملات الرقمية وعلى رأسها البيتكوين. والتي تجاوزت قيمتها السوقية سابقاً 60,000 دولار. وهذا ما يفسر ضخامة المبلغ المستثمر في ثوديكس. لا سيما أن غالبية الأفراد يرغبون بمضاعفة أموالهم.

 

التركيبة العمرية لزبائن ثوديكس

تفيد الإحصائيات بأن 51.4% من مستخدمي منصة ثوديكس هم من الشباب أبناء الجيل Z. بينما نسبة المستخدمين من أبناء الجيل Y تبلغ 26.5%. فيما تبلغ نسبة المستخدمين من أبناء الجيلX 22.1%. على وجه التحديد فالنسبة الأكبر هي لأبناء الجيل Z بشكل واضح.

 

من جهة أخرى فإن ترتيب الأجيال الحالية وإعطاءها رموزاً يعتبر قضية تكنولوجية ونفسية. فهذا الأمر هو نتاج علم النفس بالاشتراك مع علماء التكنولوجيا. فالجيل Z هو جيل التكنولوجيا والذي يبدأ من عام 1995 حتى وقتنا الحالي. بينما الجيل Y يبدأ من 1980 – 1994. أما الجيل  X فيبدأ من 1965 – 1979.

 

بصفة عامة تم تقسيم هذه الأجيال لاعتبارات تكنولوجية واجتماعية ونفسية. وبالعودة لقضية ثوديكس فمن الطبيعي أن يكون غالبية المستخدمين هم من أبناء الجيل Z الخبير بالتكنولوجيا والمدرك لخفاياها. فهو لا يحتاج لجهد كبير للتعامل مع الأدوات التكنولوجية اللازمة لاستخدام منصات العملات الرقمية.

 

ولكن ما الهدف من تحديد الأجيال المستخدمة لمنصة ثوديكس؟ الهدف معرفة الشرائح الأكثر تضرراً من عملية الاحتيال هذه. فالشباب الذي لا يتجاوز عمره 26 سنة ويخسر كل مدخراته فجأة سيبدأ حياته المهنية بصدمة مالية. وهذا ما قد يؤثر على نظرته تجاه العمل والاستثمار. بينما أبناء الجيل Y والذين لا تتجاوز أعمارهم 41 عاماً تعتبر الخسارة لهم فادحة لا سيما أنهم في ذروة العمل والإنتاج.

 

ضحايا الاحتيال بين الضحية والشراكة

يقول الإمام علي رضي الله عنه: “لم يخنك الأمين لكنك ائتمنت الخائن”. وبإسقاط هذه المقولة على حادثة ثوديكس قد نصل لاستنتاجات مهمة. قبل كل شيء بالتأكيد لا نقصد بالخائن مؤسس الشركة بل نقصد قطاع الاستثمار. فمن يستثمر أمواله في قطاع ذي مخاطر مرتفعة يجب أن يكون جاهزاً لأي خسارة محتملة.

 

في الحقيقة إن العملات الرقمية وأرباحها الخيالية فتحت شهية غالبية الناس للربح السريع والسهل بدون بذل الجهد. فيكفي أن تستثمر 1,000 دولار لتأخذها بعد عام عدة آلاف بدون أن تتكبد أي عناء. هكذا ينظر غالبية الناس لا سيما الشباب منهم للعملات الرقمية. فالغالبية يقبلون على وضع مدخراتهم في إحدى منصات التداول.

 

على عكس ذلك فإن إقبال الناس على الاستثمار في العملات الرقمية يعتبر منافياً لمبادئ الاستثمار. فالاستثمار يقوم على جمع رأس المال مع العمل والتنظيم. إلا أن العملات الرقمية لا تحتاج إلا لرأس المال فهي أشبه بالمضاربة وفي بعض الحالات بالمقامرة.

 

على أي حال تقوم العملات الرقمية على مخاطر كبرى ومنها أيضاً منصات التبادل كحالة ثوديكس. فلا وجود لأصول مادية تضمن الاستثمارات فهي قيم افتراضية لا وجود مادي لها. فعملياً هي بلا أي شكل من أشكال التغطية وهذا ما يسهل عملية الاحتيال. فمن يستثمر في أصول لا وجود مادي لها يمكن القول بأنه هو من سهل للآخرين عملية الاحتيال عليه.

 

احتيال ثوديكس بين الحاضر والماضي

هناك مستثمرون كبار ومخضرمون يستخدمون كل خبراتهم ورؤوس أموالهم في أعمال استثمارية ليحققوا عوائد قد لا تتجاوز 30% في أفضل الأحوال. فكيف يمكن تحقيق ذات النسبة من الربح وبدون جهد ولا خبرة؟! بالتأكيد من يعطيك نسبة ربح تفوق نسبة ربح كبار رجال الأعمال يسعى للاحتيال مستقبلاً.

 

في الواقع اعتمد مؤسس ثوديكس على حيلة قديمة في الاحتيال وهذه الحيلة مكررة للغاية. إلا أن شهية الربح على ما يبدو قد تعمي البصيرة. فقدم أرباحاً ضخمة لجذب أكبر عدد من الأفراد إلى منصته. كما قام بتقديم هدايا منها سيارة بورش موديل 2020. ونجحت هذه الحركة في استقطاب المزيد ليبلغ عدد المشتركين في المنصة 390,000 شخص.

 

على أي حال يبدو أن ضحايا تشارلز بونزي أشهر محتال في التاريخ لا يزالون يقعون في ذات المكيدة. فتشارلز بونزي قدم لضحاياه عوائد لا يقدمها أحد واستقطب الملايين وفر في النهاية آخذاً معه أموال ضحاياه. هنا السؤال الأبرز: هل يجوز الاعتقاد بأن استثماراً ما يستطيع منح عوائد ضخمة للعملاء أكثر من أي شيء آخر؟ بالتأكيد لا. فأي وعد بتقديم عوائد بدون جهد هي بداية لعملية احتيال.

 

في الحقيقة إن القيمة التي تم اختلاسها والبالغة 2,4 مليار دولار لو قام أصحابها باستثمارها بأي عمل إنتاجي لحافظوا على أموالهم. وفي الوقت نفسه حققوا عوائد مقبولة ووفروا فرص عمل للشباب ودعموا اقتصاد بلادهم وحققوا مصلحتهم الشخصية لكن شهية الربح أعمت البصيرة.

 

اللافت هنا أن البنك المركزي التركي قبل فترة وجيزة حذر من العملات الرقمية وتداولها. مشيراً إلى أنها تلحق أضراراً بالاقتصاد لا يمكن إصلاحها. ناهيك عن عدم خضوعها للرقابة مما يسهل عمليات الاحتيال.

 

في نهاية المطاف لا بد من التوعية بالمخاطر المالية المرتبطة بمنصات تداول العملات الرقمية وبالعملات الرقمية بحد ذاتها. على وجه الخصوص من قبل الاقتصاديين والمؤسسات الحكومية ورجال الدين أيضاً. وهنا نلاحظ قيام العديد من الاقتصاديين ورجال الدين على حد سواء بالترويج للعملات الرقمية ولتداولها. وهنا يمكن القول بأن هؤلاء يتحملون بشكل غير مباشر وزر من غُرِّر به وخسر ماله. خاصةً إذا كان قد أقدم على هذا الاستثمار بتشجيع من اقتصادي أو من رجل دين.

شَارِك المَقَال