شَارِك المَقَال

تشهد المناطق المحررة في الشمال السوري استقراراً سياسياً نسبياً مدعوماً باستقرار أمني جزئي. لكن هذا الاستقرار لم ينسحب على البعد الاقتصادي. فما زالت المؤشرات الاقتصادية متدنية. فنِسب الفقر بلغت أرقاماً قياسية. والركود الاقتصادي يخيّم على هذه المناطق بالكامل. والسؤال هنا: ما الإجراءات اللازمة لتحقيق الإنعاش الاقتصادي للمناطق المحررة وتخفيف حدة الفقر فيها؟

 

ما الواقع الاقتصادي في المناطق المحررة؟

في الواقع تشير العديد من التقارير المحلية والأممية إلى أن الواقع الاقتصادي في المناطق المحررة سيئ للغاية. فوفقاً لتقرير برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية في سوريا لعام 2021م فإن نسبة الفقر في المناطق المحررة تتراوح بين 94 – 98%. وهي نسبة خطيرة وتدل على أن غالبية السوريين في هذه المنطقة تحت خط الفقر.

 

ويضيف هذا التقرير أن نسبة الدخل في المناطق المحررة تقل عن 100 دولار شهرياً. كما أن نسبة العاملين في القطاع الخاص لا تتجاوز 25%. وعدد العاملين في المشاريع الصغيرة بلغ 11% فقط. كل هذه المؤشرات تدل على فداحة الواقع الاقتصادي في هذه المناطق.

 

في الحقيقة إن هذا التقرير وغيره من التقارير يسلّط الضوء على بعض التفاصيل الاقتصادية في عموم سوريا وفي المناطق المحررة. وأشار هذا التقرير إلى بعض القضايا التي نادراً ما يتم الإشارة لها. فعلى سبيل المثال يقول التقرير بأن 33% من سكان المناطق المحررة يضطرون لبيع أثاث بيوتهم لتأمين المصاريف.

 

إن الركود الاقتصادي الذي تشهده المناطق المحررة وانخفاض معدل الدورة الإنتاجية دفع 25% من العمال وأصحاب الورش لبيع أصولهم الإنتاجية. وهذا المؤشر بالغ الخطورة. فالاستمرار ببيع الأصول الإنتاجية يعني أنه خلال سنوات قليلة قد يكون من الصعب جداً تحريك الدورة الاقتصادية.

 

كيف يتم إنعاش اقتصاد المناطق المحررة؟

من الملاحظ أن التقارير التي تتناول توصيف الواقع الاقتصادي في المناطق المحررة تصدر بشكل دوري. إلا أن غالبية هذه التقارير تكتفي بتصوير الواقع دون تقديم حلول عملية. وفي حال تم تقديم بعض المقترحات فيمكن وصف غالبيتها بالمقترحات “الطوباوية” غير القابلة للتنفيذ.

 

بعد سنوات من الاستقرار السياسي والأمني النسبي في هذه المناطق لم تنجح أي من الخطط المقترحة في إحداث تغيير حقيقي في اقتصاد المنطقة. لذلك لا بد من إعادة النظر بالآليات السابقة وبمناهج العمل القديمة. وبالتأكيد فإن نجاح أو فشل أي سياسة اقتصادية يقاس من خلال أثرها الحقيقي الملموس على الأرض.

 

إن أي إجراءات اقتصادية تستهدف تحسين الواقع الاقتصادي في المناطق المحررة لا بد أن تتم على ثلاثة مستويات. المستوى الأول هو الإجراءات الإسعافية. والثاني الإجراءات متوسطة الأجل. والثالث الإجراءات طويلة الأمد.

 

المستويات الثلاثة السابقة وعلى الرغم من كونها مختلفة في مدى التأثير إلا أنها يجب أن تكون متزامنة في التطبيق. بمعنى أنه يجب البدء بتنفيذ هذه السياسات في وقت واحد. وتختلف هذه الإجراءات في مدة ظهور نتائجها. فالإسعافية من المفترض أن تعطي نتائج مباشرة. بينما متوسطة المدى تظهر نتائجها خلال عام واحد. وطويلة الأمد تحتاج لأكثر من عام.

 

ما أهم الإجراءات الإسعافية؟

تهدف الإجراءات الإسعافية لتقديم حلول آنية ومؤقتة للسوريين الفقراء ولحل مشكلة الفقر لهم بشكل مؤقت. ومدة تنفيذ هذه الإجراءات لا يجب أن تتجاوز ثلاثة أشهر. وفيها سيتم تقديم سلال غذائية وإعانات عينية للأكثر فقراً. وهنا يمكن الاستفادة من قواعد البيانات لدى المنظمات الإنسانية والتي لديها مسوح إحصائية لسكان المنطقة.

 

كما لا بد من حَصر المساعدات الإنسانية للفقراء غير القادرين على العمل. أما القادرون فيمكن تقديم مساعدات محدودة يليها توفير فرص عمل لهم. إما من خلال المنظمات الإنسانية أو عن طريق تأسيس منصة تجمع العمال بأصحاب العمل.

 

إن إطالة أمد الإجراءات الإسعافية لا سيما المرتبطة بتقديم المساعدات المباشرة قد يكون لها أثر سلبي. فهي قد تقود لتأثير سلبي على ثقافة العمل. بالإضافة إلى تعزيز النزعة الاستهلاكية. لذلك لا بد من حصرها بمدة ثلاثة أشهر. والانتهاء من هذه الإجراءات مرهون بمدى التقدم الحاصل بالإجراءات متوسطة الأمد.

 

ما الإجراءات متوسطة الأمد؟

تبلغ مدة الإجراءات متوسطة الأمد عاماً واحداً. وهي تستهدف إيجاد فرص عمل دائمة للسوريين. وحل مشكلة البطالة الموسمية. وذلك من خلال دعم افتتاح المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر. مثل المشاريع الزراعية ومشاريع تربية المواشي وورش الخياطة والحلاقة والحدادة وغيرها من المشاريع الصغيرة.

 

على هذه الإجراءات تقديم دعم تدريبي للراغبين بافتتاح مشاريعهم. كما يجب تجنب منح مبالغ مالية لافتتاح المشاريع. بل ينبغي أن يتم شراء المعدات اللازمة وتسليمها للراغبين بالعمل. مع تأمين ضمانات شخصية ومجتمعية بعدم بيع مستلزمات العمل. والتأكيد على أن استمرار الدعم مرهون بالحفاظ على مستلزمات الإنتاج.

 

من المؤكد أن غالبية المشاريع الصغيرة ستعاني من صعوبة تسويق منتجاتها بسبب ضعف الطلب الكلي في المناطق المحررة الناتج عن التراجع الحاد في الدخل. لذلك على الإجراءات متوسطة الأمد تبني آليات لشراء المنتجات من أصحاب المشاريع وتسويقها خارج هذه المناطق في تركيا مثلاً. مع التأكيد على وضع معايير محددة للجودة بحيث لا يتم شراء أي منتج منخفض الجودة.

 

ما الإجراءات طويلة الأمد؟

تبلغ مدة ظهور نتائج الإجراءات طويلة الأمد أكثر من عام واحد. وقد تصل لعدة أعوام للخروج من خط الفقر. وهي تهدف لإحداث تغيير جذري في البنية الهيكلية لاقتصاد المناطق المحررة. كتجهيز بيئة تشريعية مناسبة للاستثمار الداخلي والخارجي. وتبني مؤتمرات ومعارض استثمارية لجلب الاستثمارات إلى المناطق المحررة.

 

في ظل الإجراءات طويلة الأجل لا بد من تأسيس بنية تحتية في المناطق المحررة قادرة على استقبال ودعم الاستثمارات. كإقامة مدن صناعية ومناطق اقتصادية حرة. وهنا لا بد من التأكيد بأن المشاريع الصغيرة التي تم دعمها في مستوى الإجراءات قصيرة الأمد ستكون مخرجاتها مدخلات للمستوى طويل الأجل.

 

بعد أكثر من عام على البدء بمستوى الإجراءات طويلة الأمد يُفترض أن تبدأ النتائج بالظهور على مؤشرات الاقتصاد الكلي والجزئي. كتراجع معدل البطالة وتحسّن مستوى الدخل وتحسّن الصادرات وتقليل المستوردات. وذلك كله نتيجة مباشرة لانتشار الاستثمارات الضخمة في المناطق المحررة.

 

ما مصادر تمويل هذه الإجراءات؟

تحتاج المستويات الثلاثة السابقة لتمويل ضخم يتجاوز مليارات الدولارات. وهنا قد تظهر قضية توفير التمويل عقبة رئيسة في وجه نجاحها. وهنا لا بد من التأكيد على أنه بالإمكان توفير التمويل اللازم من عدة مصادر. علماً بأن هناك مصادر تمويل داخلية وأخرى خارجية.

 

تتمثل المصادر الداخلية لتمويل المستويات الثلاثة السابقة بعوائد المعابر. فالمعابر الحدودية لا سيما مع تركيا تُدِرّ دخلاً يتجاوز ملايين الدولارات شهرياً. فيمكن الاستفادة منها في عملية التمويل. كما أن عوائد تجارة المحروقات في المناطق المحررة تُعتبر من مصادر التمويل المحتملة التي يمكن الاستفادة منها.

 

أما بالنسبة للمصادر الخارجية للتمويل فهي من الدول المانحة. والتي تقدم عدة مليارات من الدولارات سنوياً. إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من إحداث أي أثر حقيقي. لذلك يمكن الاستفادة منها في التمويل. إضافة لمساهمة المنظمات الإنسانية في عملية التمويل.

 

ما الجهة المسؤولة عن تنفيذ هذه الإجراءات؟

تُعتبر الإدارة السليمة لأي مشروع والقائمة على النهج الاقتصادي العلمي جوهر نجاح هذه الإجراءات. لذلك لا بد من تأسيس هيئة وطنية مسؤولة عن تنفيذ هذه الإجراءات. وتضم نخبة من الخبراء الاقتصاديين السوريين. إضافة لممثلين عن المجالس المحلية والوجهاء المحليين. ويكون لها فروع في كل المناطق.

 

لا بد لإنجاح هذا المشروع من اعتماد مبادئ الشفافية فيما يخص إيرادات ونفقات الهيئة. إضافة لوجود منصة إلكترونية تفاعلية تتيح للعموم الاطلاع على نشاط الهيئة. ولا بد أيضاً من اعتماد مبادئ الحوكمة في كل أنشطة الهيئة.

 

لإنجاح المشروع لا بد من وجود لجنة رقابة مستقلة عن الهيئة ولا تتبع إدارياً أو تنظيمياً لها. كأن تكون جهازاً مركزياً للرقابة والتفتيش. ويكون لها كامل الحرية والحق في الاطلاع على جميع وثائق عمل الهيئة. واتخاذ أي إجراء تصحيحي لأي نشاط مخالف. مع عقد مؤتمر ربع سنوي لدراسة النتائج ومحاسبة المسؤولين حال اختلاف النتائج عن الخطة الموضوعة.

 

إن الالتزام التام بهذه الخطة وبتطبيق مستوياتها الثلاثة من شأنه النهوض باقتصاد المناطق المحررة. ومن شأنه أيضاً إظهار النتائج خلال أشهر قليلة. على أن تتصاعد النتائج خلال السنوات القليلة القادمة.

شَارِك المَقَال