شَارِك المَقَال

ها نحن على أعتاب شتاء قاسٍ للغاية يحتاج المزيد من التدفئة. لكن هذه الرفاهية التي تتمتع بها الكثير من الدول قد تكون صعبة المنال على أوروبا. فدول القارة الأوروبية تواجِه شبح نقص الغاز مع ارتفاع جنوني في أسعاره. ففي مطلع أكتوبر 2021م سجَّلت أسعار الغاز مستويات تاريخية بارتفاع بنسبة 250% خلال عام تقريباً. فوصل سعره إلى حدود المئة يورو لكل ميغاواط، ارتفاعاً من أقل من 20 يورو في عام 2019م. والسؤال هنا: هل تصبح “جائحة” أخرى.. كيف تتحكَّم العلاقات الروسية- الأوروبية في مستقبل أزمة الغاز عالميّاً؟

 

ما أسباب الارتفاع الجنوني في أسعار الغاز ؟

بعد ارتفاع أسعار الغاز عالمياً ستصبح آلاف الأسر غير قادرة على تحمل فاتورة التدفئة خلال الأشهر المقبلة. وقد أكد الاتحاد الأوروبي لنقابات العمال أن نحو 3 ملايين عامل أوروبي لن يتمكنوا من سداد فواتير التدفئة لفصلَي الخريف والشتاء. ويُمكِن القول إن هناك تخوفاً من عدم قدرة دول عدّة في “الأوروبي” على تأمين مصادر الطاقة الأساسية لمواطنيها. مثل: فرنسا التي يعتمد أكثر من ثُلث سكانها على الغاز للتدفئة.

 

في الحقيقة هناك أسباب كثيرة أدت لارتفاع أسعار الغاز في أوروبا. من أبرزها معاودة النشاط الاقتصادي من جديد بعد توقفه أشهر طويلة بسبب جائحة “كورونا” ليس في أوروبا فقط ولكن على الصعيد العالمي أيضاً. هذه العودة أدّت إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار جميع موارد الطاقة بما فيها: الغاز والمحروقات الأخرى.

 

بالإضافة إلى ذلك فإن القوانين الأوروبية لمكافحة التلوث البيئي والحدّ من الغازات الدفيئة دفعت الكثير من دول أوروبا لاستبدال الفحم الحجري بالغاز لإنتاج الكهرباء. فهو يبعث كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون.

 

كما أن هناك تناقصاً في مخزون الاحتياط من الغاز بسرعة كبيرة نتيجة الشتاء القارس الذي شهدته القارة في عام 2021م. واستمر لفترة أطول مما قبله. ما أدى لاستهلاك كميات أكبر من الغاز للتدفئة بنسبة 15% مقارنة بعام 2020م. وبالتالي لم تتمكن الحكومات الأوروبية من إعادة التخزين بشكل كامل حتى في فصل الصيف بسبب ارتفاع الطلب على الغاز عالميّاً.

 

علاوة على الطقس السيئ الذي تمرّ به دول القارة جعل هناك لجوءاً محدوداً للطاقات المتجدِّدة. مثل الرياح والشمس. وبالتالي فالناتج عنها لا يُمكِن أن يفي باحتياجات هذه الدول من الطاقة. مما يؤدي لزيادة الطلب على الغاز الطبيعي.

 

وفي الوقت نفسه فإن اعتماد دول أوروبا بشكل أساسي على دولتين مُصدّرتين للغاز هما روسيا (32.9%) والنرويج (19.8%). أي أكثر من نصف حصة الغاز المستورد إلى أوروبا. وفي خريف 2020م حدث عطل تقني في النرويج نتيجة حريق في إحدى المنشآت الأساسية أدى لإغلاقها لفترة طويلة. امتدت أكثر من اللازم بسبب قيود الإغلاق الاقتصادي نتيجة جائحة “كورونا”. ولذلك أصبحت روسيا المصدر الأكبر والاستراتيجي للغاز الأوروبي. وتحديداً شركة “غازبروم” الروسية التي تحتكر تصدير الغاز إلى أوروبا.

 

من جهة أخرى واجهت “غازبروم” الروسية اتهاماً في سبتمبر الماضي (2021م) من 40 نائباً في البرلمان الأوروبي. قُدِّم للمفوضية الأوروبية بخفض إمدادات الغاز عبر أوكرانيا وبالتالي ارتفاع الأسعار. بينما نفت الشركة الروسية هذا الاتهام. وأكدت موسكو أنها تفي بكامل التزاماتها لأوروبا من الغاز الطبيعي بموجب العقود القائمة. وأن الشكاوى الأوروبية ضدها ذات دوافع “سياسية”. بسبب مواقف روسيا من بعض الملفات مثل الثورة السورية وحقوق الإنسان.

 

بصفة عامة فإن التوترات السياسية بين أوروبا وروسيا ليست وليدة اليوم أو حتى أشهر سابقة. ولكنها ممتدة منذ عقود. لكن آخرها كان العام الجاري (2021م). حيث تبادل الطرفان العقوبات في مارس وأبريل الماضيين. وكان البادئ الاتحاد الأوروبي بسبب ما وصفه بـ”انتهاكات لحقوق الإنسان”.

 

بعيداً عن السياسة.. لماذا تضغط موسكو بالغاز على أوروبا؟

قبل كل شيء إذا كانت موسكو حقاً لا تضغط سياسياً على أوروبا مستغلةً أزمة الغاز. فما دوافعها الأخرى لرفع الأسعار؟. الإجابة تتلخص في “أوكرانيا”.. تلك الدولة الأوروبية الصغيرة التي تُعدُّ همزة الوصل بين أوروبا وروسيا.. والتي تجني أرباحاً طائلة من عبور الغاز الروسي أراضيها إلى أوروبا.

 

من جهة أخرى فإن أوكرانيا المتمردة على موسكو تحظى بدعم الغرب ضد الدب الروسي. ولهذا السبب تريد موسكو معاقبتها على ميولها الغربية. فتسعى لحرمانها من هذا الكنز وزعزعة استقرارها. عن طريق خطّ أنبوب غاز “نورد ستريم2”.

 

في 6 سبتمبر 2021م أعلنت شركة “نورد ستريم2 إيه.جي” المملوكة لشركة “غازبروم” الروسية للغاز تركيب آخر أنبوب في خط أنابيب الغاز “نورد ستريم2”. ضمن مشروع الغاز الروسي “السيل الشمالي-2” (أنبوبان لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق). ترى أوكرانيا أن موسكو ترفض زيادة عمليات تسليمها الغاز الروسي. وتتعمَّد تعزيز النقص في المعروض ورفع الأسعار. من أجل الضغط على دول أوروبا لسرعة تشغيل الخط.

 

هذا المشروع انقسمت عليه دول القارة الأوروبية. فمن جانب يحظى بدعم الدول النافذة وعلى رأسها ألمانيا. ومن جانب آخر ترى بعض الدول أنه سيزيد من الاعتماد الأوروبي على روسيا. وسيكون نقطة ضعف تستغلها موسكو فيما بعد للضغط سياسياً على دول أوروبا. أزمة الغاز الحالية هي أول مثال على ذلك.

من جهة أخرى فإن موسكو تتشبث بالاستمرار في دور المحتكر الأول لإمدادات الطاقة في أوروبا. ولذلك يمكن اعتبار رفع الأسعار والتلويح بنقص المُصدَّر من الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي بمثابة “تأديب” للأخير. بعد أن شجّع عمليات الشراء من سوق الصفقات الفورية. بدلاً من توقيع عقود طويلة الأمد مع “جازبروم” الروسية.

 

هذا بالضبط ما أراده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. حيث انتقد علانيةً ما وصفه بـ”فلسفة المفوضية الأوروبية التي تظن أن أسواق الطاقة يمكن ضبطها في البورصة من خلال سوق الصفقات الفورية”. ولم ينس بالطبع هنا التذكير بسرعة وضع خط أنبوب “نورد ستريم 2” في الخدمة. فلطالما قالت موسكو إنها تعتزم تسليم كمية أكبر من الغاز. لكنها في الوقت نفسه تأمل في عودة أوروبا إلى سياسة توقيع الاتفاقات طويلة الأجل.

 

إن الصراع السياسي والاقتصادي بين روسيا وأوروبا قد يطول لسنوات أخرى. وستتعمق معه أزمة الغاز ولكنها لن تستمر داخل حدود القارة الأوروبية فقط. ولكن ستنتشر في مختلف دول العالم كجائحة “كورونا”. فيتوقع خبراء اقتصاديون أن تبقى أسعار الغاز مرتفعة عالمياً خلال هذا العقد مقارنة بالعقد الماضي (أسعار الغاز ارتفعت في آسيا بنسبة 175%).

في نهاية المطاف هناك دول كثيرة “فقيرة” لن تتحمل هذا الارتفاع في المستقبل. وهذا قد يعني لجوء دول عدة مجدداً إلى استخدام الفحم الحجري منخفض التكلفة لإنتاج الطاقة بديلاً للغاز. بدأت بريطانيا بالفعل إعادة تشغيل معامل الفحم الحجري رغم سعيها لإيقافها بشكل كامل في 2024م.

 

الأمر الذي يُهدِّد خزائن روسيا وأوروبا على السواء. ويقوّض كذلك الجهود السابقة والمنتظرة لحماية البيئة من الانبعاثات الملوثة. فالأمر إذاً يحتاج وقفة لإعادة تقييم العلاقات الأوروبية-الروسية من جديد على أساس الصالح الدولي العام وليس موسكو أو “الأوروبي” دون الآخر.

شَارِك المَقَال