شَارِك المَقَال

اهتم الاقتصاد الإسلامي بإبراز الفوارق بين العملات المعدنية التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام وفي العصور الإسلامية الأولى وبين الأموال النقدية التي ظهرت فيما بعد. حيث تتوقف عليها الكثير من الأحكام الفقهية في المعاملات الاقتصادية مثل الزكاة والربا وما يرتبط بها من تعاملات مالية. والسؤال هنا: هل تفاوت قيمة العملة الورقية مع الزمن يفتح الباب للاقتراض الربويّ؟

 

ما أبرز الفروق بين العملات المعدنية والعملات الورقية؟

توجد فروق بين العملات المعدنية “الثمينة” التي كانت سائدة في الماضي -مثل: الذهب والفضة- وبين العملة الورقية. تتمثل في أن العملات المعدنية تضمن قيمتها بمرور الزمن وباختلاف المكان فهي مخزن عالمي للقيمة. في حين أن الأوراق المالية مجرد “نقد” يكتسب قوته السوقية من متانة اقتصاد الدولة واستقراره.

 

فارق آخر جوهري بين العملات المعدنية والعملات الورقية. وهو أن أحكام الربا تتصل بالأولى. فلا يجوز استبدال الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة. بينما في العملات الورقية “المختلفة” لا يتحقق فيها شروط الربا. فيجوز شرعاً بيع الريال السعودي مثلاً بالدينار الكويتي مع دفع الفارق بين العملتين.

 

بعض فقهاء الاقتصاد الإسلامي كانوا يرون عدم وجوب الزكاة في العملات الورقية بدعوى أن علماء السلف لم يعرفوها من قبل. فظهورها كان متأخراً كما ذكرنا من قبل. ولأنها من وجهة نظرهم ليست نقوداً شرعية مثل النقود المعدنية “الذهب والفضة”. أو ليست بمال أصلاً وبالتالي لا زكاة فيها.

 

لكن علماء معاصرين كثيرين أقرّوا بوجوب الزكاة في العملات الورقية باعتبارها أصبحت أثماناً بالعُرف. وهو الذي قرَّره مجمع الفقه التابع للمؤتمر الإسلامي من أنها نقود اعتبارية تتضمن صفة “الثمينة” كاملةً. ولذا تخضع للأحكام الشرعية مثل الذهب والفضة. من حيث أحكام الربا والزكاة وغيرها.

 

ما موقف الفقهاء من اختلاف قيمة العملة النقدية؟

اختلاف قيمة العملة الورقية بمرور الزمن أحدث إشكالية مدى ارتباطها بالاقتراض الربوي. فإذا أقرض شخصٌ آخر مبلغاً من المال “ألف دولار مثلاً”. فهل يتم إرجاعها بالمثل “ألف دولار” أم بقيمة هذه الألف يوم الاقتراض؟. ففي وقت السداد قد يجد المقرِض أن المبلغ أقل أو أكثر قيمة من المبلغ الأصلي.

 

انقسم فقهاء الاقتصاد حول اختلاف قيمة العملة النقدية إلى ثلاثة أقوال. الأول رآه جمهور المالكية والشافعية والحنابلة. وهو أن قضاء الدَّين يكون بالمثل لا بالقيمة دون الالتفات لعوامل الغلاء والرخص. أما جمهور الحنفية فرأوا العكس. أي أن المدين ملزَم بقضاء قيمة النقد عند غلائه أو رخصه.

 

أما الرأي الفقهي الثالث -والذي ذهب إليه بعض فقهاء المالكية- فيتمثل في مراعاة قيمة التغير. بمعنى أن التغيُّر في قيمة النقد إن كان كبيراً بحيث انخفضت القوة الشرائية للنقود بقوة. فالواجب هنا على المدين ردّ قيمة الدّين يوم ثبوته في ذمته. وإن كان التغيُّر في القيمة طفيفاً فالواجب هنا هو الردّ بمثل النقد وليس بقيمته.

 

وتفريعاً من هذا الرأي اتفق عدد من الهيئات والمجامع الفقهية والفقهاء على أنه إذا كان الغلاء والرخص في قيمة العملة قليلاً بحيث لا يصل الهبوط أو الارتفاع إلى الثُلث فيكون الواجب ردّ المثل. لأن الغلاء والرخص اليسير مغتفَر شرعاً. ولا تخلو منه المعاملات عموماً.

 

أما إن كان التغير في قيمة العملة يتجاوز الثلث. وتنازع الطرفان. فهنا يتم تقدير الخسارة وتقسيمها عليهما بالتراضي. دون الإلزام بدفع المثل لأن فيه ضرراً على الدائن. أو الإلزام بدفع القيمة لأن فيه ضرراً على المَدين. والعدل يقتضي ألا يختص أحدهما بالضرر دون الآخر بل يتوزع عليهما بالتوافق.

 

موقف دور الإفتاء

دور الإفتاء في بعض الدول الإسلامية تعتمد الرأي الثالث. فترى أنه إن كان التغيُّر في قيمة العملة الورقية كبيراً فإنَّه يتسبب في حدوث ضرر بَيِّن للدائن يجب رفعه بالصلح العادل بين الطرفين. وإن لم يتفقا على أمر وسط يُرفع هذا الضرر بالتحكيم العُرفي أو باللجوء إلى القضاء لتسوية الأمر.

 

بعض الفقهاء المعاصرين ذهب إلى ترجيح القولين الأخيرين. إلا أن القول الأكثر شيوعاً هو مذهب جمهور المالكية والشافعية والحنابلة. لأنه يدفع شُبهة الدخول في حالة الربا. فمن اقترض ألفاً ثم رد ألفين فلا شك أنه “ربا”. لأن زيادة أحد العوضين عن الآخر من ربا الفضل إذا اتحد نوع المال الربوي.

 

كما أن ردّ الدين بالقيمة لا بالمثل يشتمل على حالة “جهالة” يرفضها الشرع. من حيث إن المُقرِض لا يعلم كم سيستلم في المستقبل. والأسوأ من ذلك وضع المقترض. فهو لا يدري كم سيُسدّد مقابل دَينه. هل سيدفع ألفاً أم اثنين أم ثلاثة وفقاً لظروف السوق واختلاف القيمة ارتفاعاً أو انخفاضاً.

 

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية أقرت بضرورة قضاء القروض بمثلها ومن جنسها. لأن ارتفاع قيمة النقد أو هبوطها من الأشياء التي يعود نفعها وضررها على الطرفين. ولأن تقلّب الأسعار كان موجوداً أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغيّر الرسول من أجله القاعدة الشرعية.

 

وإذا كان الدَّين الثابت من عملات ورقية معينة ثم بَطُلَ التعامل بها لأي سبب كان. فالواجب هنا ردُّ قيمة هذه العملة من عملة أخرى متاحة أو من الذهب والفضة. لتعذُر ردّ المثل من نفس الجنس. فيُصار إلى القيمة في يوم قبض الدَّين أو ثبوته في ذمته وردّها سواء نقصت قليلاً أو كثيراً.

شَارِك المَقَال