شَارِك المَقَال

مع نهايات القرن العشرين شهد العالم تغيُّرات واسعة على جميع الأصعدة العلميَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والتكنولوجيَّة، كانت سبباً في توسيع الرؤية لمفهوم الثَّقافة، من فكرة الإنتاج إلى توظيفها في الاقتصاد؛ حيث أصبح كلّ شخص مُبدع في المجتمع بمثابة مُنْتِج أو مُؤسَّسة اقتصاديَّة، تنتج ثقافة، تُدِرّ دخلاً على الدولة.

 

ومع التَّطوُّر المستمرّ في مجال تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعيّ، اتَّسعت دائرة الاقتصاد الثَّقافي؛ لتشمل كلّ محتويات الإبداع الإنسانيّ، حتى تم تحويل الثَّقافة إلى مورد اقتصاديّ، باعتبار أنَّ الفنون والثَّقافة والسياحة الثَّقافيَّة، بما تشتمل عليه من متاحف، ومعارض، وبانورامات تاريخيَّة، وحِرَف شعبيَّة، ومهرجانات فنيَّة وثقافيَّة، لم تعد مجرد هوايات، بل أصبحت صناعةً تتطلّب رأس مال وتخطيط وتسويق وكادر مدرَّب، وغدت مُنتجات قابلة؛ لأن تشكل رقماً مهماً في الدَّخْل القومي، ناهيك عن أنها قاطرة لرسالة الدولة وللتعريف بمكانتها الحضاريَّة ودورها الإنساني.

 

لقد أدَّت الرقمنة إلى نُموّ مطَّرد في الإنتاج الثَّقافي، وتضاعف قيمته في الاقتصاد بشكل مباشر، وتحت مسمى مجتمع المعرفة أو مجتمع المعلومات؛ أصبحت المعرفة أهم مصادر التَّنمية، وإنتاج المعرفة من أهم مصادر الدَّخْل القومي.

 

الأهميَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للثَّقافة كمصدر للدَّخْل القَوميّ

 

الثَّقافة هي الشُّريان النابض بالحياة لأيّ مجتمع، ويتمّ التعبير عنها بالعديد من الطُّرق التي تحدّد هُويّته، تُوفّر الثَّقافة فوائد اجتماعيَّة واقتصاديَّة مهمَّة؛ من خلال تحسين التَّعلُّم والصحة، وزيادة التسامح، وفرص الالتقاء مع الآخرين، كما تعزّز الثَّقافة جودة الحياة وتزيد الرفاهيَّة العامة للأفراد والمجتمعات.

 

وتتضاعف الأهميَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للثَّقافة بعناصرها وأشكالها المختلفة، في حالة ما إذا كانت مصدراً للدَّخْل القَوميّ للدولة؛ حيث إنها في تلك الحالة تشغل بال المسؤولين في الدولة، ويتمّ رَصْد لها الميزانيات والاهتمام بعناصر المختلفة، ومِن ثَم تتضاعف الأهميَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لها. وفيما يلي إشارات مجملة على هذه الأهمية  على سبيل المثال وليس الحصر:

 

أولاً: الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة:

  • يسهم قطاع الفنون في الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة بـ 763 مليار دولار سنوياً.
  • قطاع الفنون يُوفِّر 2,1 مليون وظيفة مباشرة وغير مباشرة.
  • الأرباح السَّنويَّة من قطاع الطباعة والنَّشر يبلغ 25 مليار دولار.
  • أرباح المسرح في الولايات المُتَّحدة تبلغ 1,4 مليار دولار سنوياً.

 

ثانياً: الصين

  • الإيرادات الإجماليَّة للصناعات الثَّقافِيَّة في الصين تبلغ 575 مليار دولار سنوياً.
  • إيرادات دور السينما في الصين 36 مليار دولار سنوياً.
  • تسيطر الصين على 21% من قطاع الاستثمارات الثَّقافِيَّة في العالَم.

 

ثالثاً: فرنسا:

  • يبلغ الناتج الإجمالي الثَّقافِيّ في فرنسا  44 مليار يورو سنوياً.
  • يساهم برج إيفل ومتحف اللوفر بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ بـ 6% من النَّاتج القوميّ الإجماليّ الفرنسيّ.

 

ماذا عن صناعة الثقافة في قطر؟

صاغت دولة قطر رؤية ثقافيَّة جديدة ضمن خطتها الوطنيَّة لعام 2030 لتكون رافداً من روافد الثَّقافة إقليمياً ودولياً، ومن أجل ذلك أسَّست الكثير من المشاريع الثَّقافيَّة مثل الحي الثَّقافي “كتارا” الذي يضمّ بين جنَباته المسارح وشاشات السينما الأحدث عالمياً والمَزارات الزَّاخرة بالقطع الأثريَّة التي تُعبّر عن تراث قطر وتاريخها الذي بدأ منذ 4000 عام قبل الميلاد، ووفق ما عُثِرَ عليه من حفريات ونقوش وفخاريَّات نادرة في أنحاء البلاد.

 

واتجهت دولة قطر منذ سنوات إلى العمل ضمن إطار عامّ لتشجيع الصِّناعة الثَّقافيَّة الإبداعيَّة بما يُعزّز مكانتها على خريطة الإبداع الثَّقافيّ العالميّ، ويزيد من قدراتها التنافسيَّة في المجال الثَّقافي، ويجعل منها وجهة جاذبة للموهوبين والمثقفين والمبدعين من كافَّة أنحاء العالم.

 

نحو استراتيجيَّة شاملة للنُّهوض بالاستثمار الثَّقافِيّ في دولة قطر

  • دَعْم مُؤشِّرات الاستثمار الثَّقافِيّ في دولة قطر وإطلاق استراتيجيَّة وطنيَّة متكاملة، تدرس الأمر من جانب ثقافيّ واقتصاديّ في آنٍ واحدٍ.
  • الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لدعم وتعزيز الاستثمار الثَّقافِيّ تُحقِّق مصالح البيئة الاقتصاديَّة في الدولة والمجتمع الفكريّ والثَّقافِيّ.
  • الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لدعم وتعزيز الاستثمار الثَّقافِيّ من شأنها تحويل بعض القطاعات الثَّقافِيَّة والفكريَّة والتُّرَاثيَّة إلى مصادر دَخْل مادِّيّ وفكريّ.
  • الاستراتيجيَّة الوطنيَّة لدعم وتعزيز الاستثمار الثَّقافِيّ تُسْهم في تحقيق رؤية قطر الوطنيَّة 2030، في الجوانب التَّالية:
  • تحقيق المرتكز الاقتصاديّ في الرؤية، لا سيَّما المُتعلّق بتنويع القطاعات الاقتصاديَّة وتقليل الاعتماد على النَّفط والغاز في تمويل الموازنة العامَّة للدولة.
  • دَعْم مُؤشِّرات القيمة المضافَة في اقتصاد الدولة، بما يسهم في تحويل الاقتصاد القطريّ من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد إنتاجيّ مادِّيّ ومعرفيّ.
  • تحقيق مرتكز التَّنمية الاجتماعيَّة في الرُّؤية؛ كون الاستثمار الثَّقافِيّ يُعزّز من واقع انفتاح المجتمع القطريّ على الثَّقافات والمجتمعات الأخرى، وتحقيق الالتزام بالقِيَم الأخلاقيَّة والثَّقافِيَّة في المجتمع القطريّ كون الاستثمار الثَّقافِيّ يسهم في المحافظة على التُّرَاث الفنِّيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ للمجتمع.

 

من أين تبدأ صناعة الثَّقافة في قطر؟

يمكن القيام ببعض الخطوات الأخرى؛ لتعزيز اقتصاد الثَّقافة في قطر، ومنها:

  • إطلاق برامج الكشف عن المواهب الفرديَّة في المجتمع، والعمل على تطويرها من خلال تدشين المسابقات والمُبادَرَات الفنيَّة على مستوى الدولة.
  • إطلاق برامج وطنيَّة شاملة في صناعة الفنان المثقَّف؛ من خلال تحفيز الابتكار والإبداع، وهذا يتطلَّب تفعيل اللامركزيَّة في اتّخاذ القرارات، إضافةً إلى إشراك المجتمع المحَلِّيّ في صنع القرار بهدف تدعيم دور المُنتَج الثَّقافي الإبداعيّ بالمجتمع.
  • إطلاق المُبادَرات التنافسيَّة باعتبارها شكلاً من أشكال “الاقتصاد الإبداعيّ”، القائم على الاستثمار الأمثل للمحتوى المعرفيّ للأفراد المشاركين في تلك المسابقات التَّفاعليَّة لتشجيع الإبداع واكتشاف المواهب.
  • تبنّي رؤية موسَّعة للصناعات الإبداعيَّة بما يوسّع مفهوم التعدديَّة الثَّقافيَّة، لتشمل كلّ المنتجات التي يمكن أن ترتبط بها القيمة الثَّقافيَّة المضافة، إلى مرحلة يكون فيها كل شيء ذا قيمة ثقافيَّة، ويصبح المفهوم العام للإبداع مرتبطاً بالاقتصاد الإبداعيّ الذي قد يزيد من حجم المبدعين بالدولة.
  • نجاح الصناعات الثَّقافيَّة بمختلف أنواعها في قطر يتطلَّب بناء بعض المُؤسَّسات المعنيَّة بالصناعات الإبداعيَّة، وكذلك وَضْع التشريعات المُنظِّمة والتي تحمي تلك الصناعات، علاوة على عدم ترك هذه الصناعات لاقتصاد السوق.
  • تقديم الدعم والحماية والرّعاية للمبدعين وصُنّاع الثَّقافة ليساهموا مساهمة حقيقيَّة في التَّنمية المجتمعيَّة وفي تكوين النَّاتج المحَلِّيّ الإجماليّ للدولة، خصوصاً أن بعض هذه الصِّناعات كصناعة البرمجيَّات والمعلومات باتت تُشكّل عنصراً مهماً في تعزيز الاقتصادات.
  • إطلاق برامج الشَّراكة بين القطاعين العام والخاص باعتبارها حجر الزاوية لاستراتيجيَّة وزارات الثَّقافة والشَّباب لتنفيذ برنامج شامل لتطوير الصِّناعات الثَّقافيَّة والإبداعيَّة.
  • تعزيز البِنْيَة التشريعيَّة، والتي تسهم في حفظ حقوق الملكيَّة الفكريَّة للمبدعين، وتحفيز البيئات المُؤسَّساتيَّة الداعمة للإبداع، وكذلك التَّمكين من نواحي التمويل والدعم الفني.
  • اعتبار الفنّ سِمَة من سمات الاقتصاد؛ حيث يكون العنصر الأساسيّ لمحتوى الصِّناعات الثَّقافيَّة المعاصرة، في كلّ فروع الفنون الجميلة والتصميم وصناعة الأفلام والأدب والموسيقى والصحافة والأعلام والهندسة المعماريَّة وألعاب الفيديو والبرامج والتطبيقات الخلويَّة، وغيرها.

 

إنَّ اقتصاد الثَّقافة، والصِّناعات الثَّقافيَّة في قطر، يمكن أن تكون مورداً مهمّاً من موارد الاقتصاد القطريّ غير النَّفطي، خاصةً خلال السَّنوات القليلة المقبلة، التي يُتوقّع فيها تغييرات كبيرة في اتجاهات أسعار الطاقة، بعد بدء تخلّي أوروبا عن الوقود الأحفوريّ، مقابل الاعتماد على الطاقة المُتجدّدة، وهو ما يجب معه تفكير دولة قطر، في موارد أخرى مُتجدّدة للدَّخل، أبرزها الثَّقافة ومُنْتَجَاتها المختلفة.

شَارِك المَقَال