بصفة عامة يعد سعر الفائدة من المؤشرات الاقتصادية المهمة والتي تمتاز بدوام التغير. خصوصاً أن البنوك المركزية تتحكم به صعوداً وهبوطاً للتحكم بالاقتصاد وتوجيه مساره. وهنا قد يتساءل البعض هل تخفيض هذا السعر يمثل هدفاً اقتصادياً بحتاً أم أنه يتقاطع مع تعاليم الإسلام الذي يحرِّم الربا. والسؤال الأهم هنا: ما جدوى تخفيض سعر الفائدة؟ وهل يمكن إلغاؤه؟
في الواقع يعد مصطلح سعر الفائدة من المصطلحات الحديثة نسبياً. فسابقاً لم يكن يعرف إلا الربا والذي شهد تحريماً صريحاً في الإسلام. وحتى في الأديان السماوية الأخرى أو الوضعية تم النظر بسلبية للربا وللمرابين. فأرسطو قال بأن “النقود لا تلد ولا يجب أن تزداد من تلقاء نفسها”.
بالإضافة إلى ذلك استمر الموقف السلبي من الربا والمرابين حتى مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية. ولكن مع ظهور المدارس الليبرالية بدأت تعلو بعض الأصوات المنادية بتبرير الربا. وهنا بدأ مصطلح سعر الفائدة بالظهور. وتم الفصل بين الربا (usury) وبين سعر الفائدة (interest).
من جهة أخرى ففي القرن التاسع عشر كانت القوانين الأوروبية تنص على جواز فرض نسبة على القروض. على ألا تتجاوز هذه النسبة 4%. وفي حال تجاوزت هذه النسبة تتحول لربا. وبات يطلق على الربا سعر الفائدة غير القانونية والتي تحرّمها القوانين.
أما في النصف الثاني من القرن العشرين فتم تحرير أسعار الفائدة وتلاشى الفرق بينه وبين الربا. ففي بريطانيا تم عام 1974 إصدار قانون الائتمان الاستهلاكي الذي حرّر سعر الفائدة. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم إلغاء قانون الربا Usury Law. ولذلك بات للفائدة مشروعية قانونية كاملة بغض النظر عن نسبتها.
في الحقيقة تم التسويق لسعر الفائدة بشكل متدرج حتى نال قبولاً عاماً وتلاشت المعارضة له. فالفاتيكان اعترف بمشروعية سعر الفائدة عام 1917م. ولذلك أصبح مشرّعاً بشكل تام وتم إلغاء مصطلح الربا بالكامل في الأدبيات الاقتصادية ليحل محله مصطلح سعر الفائدة.
بصورة شاملة حرّم الإسلام الربا بشكل صريح لما فيه من آثار سلبية اقتصادية واجتماعية وأخلاقية. إلا أنه من الملاحظ أن جميع الدول الإسلامية تعتمد سياسة سعر الفائدة. وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً حول المشروعية الدينية لهذا الأمر. وفي ذات الوقت ينظر بعض الناس إلى أي تخفيض للفائدة على أنه محاربة للربا. فهل هذا الأمر دقيق؟
ومع هذا يحتّم المنطق النظر لتخفيض سعر الفائدة وفق وجهة نظر اقتصادية فقط. فلا يمكن النظر إليه على أنه محارَبة للربا. فالربا إما أن يُلغى أو يُعتمد فلا مجال لحلول وسطية في هذا المجال. ومن وجهة نظر دينية لا علاقة لنسبة الربا بتحريمها. فوِزْر مَن يعتمد ربا 1% لا يقل عن وزر من يعتمد 10%. فالقضية لا علاقة لها بالنسبة بل بوجودها وعدمها فقط.
لتوضيح هذه النقطة لا بد من النظر للدول الغربية التي تعتمد أسعاراً متدنية للفائدة. وفي أوقات سابقة فرضت فائدة صفرية وحتى سالبة. فهل لجأت لهذا الأمر انطلاقاً من وازع ديني أم انطلاقاً من مصلحة اقتصادية؟. بالتأكيد الخيار الأول هو الصحيح بدليل أنه عادت لرفع سعر الفائدة بعد تغير الظروف الاقتصادية.
غالباً ما تترافق سياسة تخفيض سعر الفائدة بآثار جانبية سلبية مؤقتة. من أبرزها الضغط على العملة المحلية. وهذا الأمر يضغط على مستوى الدخل السائد ويضرّ بأصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة. وقد يُترجم لاحقاً لآثار سياسية. ولذلك ولامتصاص الغضب الشعبي يتم دغدغة المشاعر الدينية من خلال التسويق بأن خفض سعر الفائدة يُعد حرباً على الربا.
كما أن التسويق لفكرة أن خفض الفائدة يتقاطع مع الحرب على الربا يعد أمراً مبرراً. فتخفيض الفائدة قد يكون ضرورة اقتصادية ملحة. إلا أن الآثار الجانبية له قد تشكّل عامل ضغط على الحكومة يدفعها للتراجع عن هذه السياسة. وهو ما سينعكس سلباً على الدولة والأفراد. لذلك لا بد للجوء لهذا الأمر سعياً لتمرير هذا القرار ريثما تختفي الآثار السلبية وتبدأ النتائج المرجوة بالظهور.
يمكن تشبيه حالة خفض سعر الفائدة وآثاره السلبية الآنية والإيجابية الدائمة والعمل على استيعاب الاستياء الشعبي من آثاره السلبية برفع الضرائب. فبعض الدول تقرر رفع معدل الضرائب وهو ما يثير غضب المواطنين. إلا أن هذا الأمر في جوهره سيعود بالنفع عليهم ولكن ليس بشكل فوري. لذلك تسعى الحكومات للتسويق لهذا الأمر واستيعاب الحنق الشعبي ريثما تبدأ النتائج الإيجابية بالظهور.
على الرغم من أن تخفيض الفائدة يختلف في جوهره عن إلغاء الربا. إلا أنه من الناحية الاقتصادية يعد ذا منفعة اقتصادية. فمن شأنه تحفيز الاقتصاد وذلك كونه يحفّز العرض والطلب الكليين. فهو أداة فعالة في دعم الاقتصاد والدفع باتجاه الإنتاج الفعلي ودعم الميزان التجاري.
كما يهدف تخفيض الفائدة أيضاً لتوليد فرص عمل جديدة ورفع مستوى الأجور السائد. ولكن هذا الأمر لن يتحقق إلا في المدى المتوسط. لذلك لا بد للحكومات من اتخاذ إجراءات فعالة للتقليل قدر الإمكان من الآثار السلبية الآنية للتخفيض. إضافة لإجراءات للحد من الاستثمار السلبي للخفض والذي يتمثل بنشاط حركة المضاربة على العملات.
ما مدى إمكانية إلغاء سعر الفائدة؟
في الحقيقة تعد فكرة الفائدة في جوهرها سلبية. وهي تقيد الاقتصاد بقيود صارمة. ولكن تخفيضه في ظروف معينة يعد أهون الشرور. فالسعر المنخفض لا يعد الحالة المثالية لكن قد يعد أفضل الخيارات المتاحة في بعض الأحيان. فالحل الحقيقي والمثالي هو التخلي عن الفائدة بالكامل.
وفي الوقت نفسه فإن الحديث عن التخلي عن الفائدة يعد أمراً غير ممكن أبداً في ظل الظروف العالمية الحالية. فالاقتصاد العالمي قائم برُمته على هذا المبدأ. واقتصاد الدول أصبح متشابكاً مع بعضه لدرجة لا يمكن أبداً إلغاؤه في دولة واحدة بمعزل عن الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك فإن إلغاء الفائدة لا يمكن أن يتم عن طريق تخفيضه. فالمشكلة لا تحل نفسها بنفسها. فهل يمكن علاج مشكلة الفائدة بآليات الفائدة ذاتها؟!. بالتأكيد لا يمكن. فسبب المشكلة لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل. فالنار لا تُطفَأ بالنار!
في النهاية يمكن التخلي عن الفائدة مستقبلاً ولكن ليس بسهولة. فيمكن للدول الإسلامية مجتمعةً التخلّي عنه من خلال تأسيس بنك مركزي إسلامي موحد. واتخاذ عملة إسلامية موحدة واعتماد مبادئ تمويل إسلامية. وهذا الأمر يحتاج لخطة اقتصادية مدروسة وطويلة الأجل.