قبل كل شيء تعتبر تركيا من أبرز الدول المستقبِلة لحركات الهجرة واللجوء عالميّاً. لكن منذ عام 2011م تخطى الأمر حدوده المتعارف عليها قبل هذا التاريخ. فالتجربة التي تعيشها تركيا الآن مع اللاجئين السوريين الذين تدفقوا بالملايين إلى أراضيها بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية لم تشهدها هذه البلاد من قبل.
في الوقت الحالي أصبحت تركيا هي الدولة الأكثر استضافةً للاجئين في العالم. والسؤال هنا: القبول تحوَّل إلى “تحمُّل”.. لماذا تغيَّرت نظرة المجتمع التركي لاستضافة السوريين على أراضيه؟
بصفة عامة كان وجود اللاجئين في السنوات الأولى من الثورة السورية مرتبطاً بشكل رئيس بالأحداث السياسية في سوريا وتطوراتها المتصاعدة. لكن الأمر قارب على الدخول عامه الحادي عشر. وهو وضع لم يتخيله أحد سواء الطرف السوري أو التركي.
بناء على ذلك لم يتم التخطيط المسبق للتعايش مع كل هذه الأعداد الهائلة من الوافدين السوريين. خصوصاً أن عددهم يزيد عن ٣ ملايين و٥٧٦ ألف سوري حتى ٣١ أكتوبر ٢٠١٩م.
نتيجة لذلك بدأت محاولة استيعاب السوريين في تركيا عبر مخيمات اللاجئين التي أقيمت على المناطق الحدودية مع سوريا. كان ذلك حتى عام 2013م. لكن فيما بعد كان توزيعهم داخل البلاد أمراً مُلحاً. لأن نحو 98.3%من إجمالي السوريين في تركيا ينتشرون خارج المخيمات.
من هنا بدأت مرحلة اجتماعية جديدة على الطرفين معاً. لا سيما أنه منذ ذلك الحين وُلِدَ ما لا يقل عن ٥٣٥ ألف طفل سوري في تركيا، والتحق أكثر من ٦٥٠ ألف طفل سوري بالمدارس الحكومية التركية و٣٣ ألف طالب جامعي.
في الوقت الحالي هناك مرحلة اجتماعية جديدة يبلغ متوسطها أكثر من 5 سنوات. آخذة في الازدياد لأسباب كثيرة أهمها ضبابية إجراءات عودتهم إلى بلادهم مع استمرار الأعمال العسكرية. الأمر الذي يدفع الوافدين لتفضيل بقائهم داخل تركيا بدلاً من العودة غير الآمنة إلى سوريا.
من جهة أخرى صدر مؤخرًا “الملخص التنفيذي لمؤشر الضغط للسوريين لعام 2019” للبروفيسور الدكتور م. مرات أردوغان. وهي مجموعة أبحاث تركز على أوضاع الوافدين السوريين داخل المجتمع التركي. خاصةً فيما يتعلق باللقاءات الاجتماعية والأفكار والعواطف والمخاوف والتوقعات والمفاهيم الأساسية.
يرى “مؤشر الضغط للسوريين” أن من أبرز سمات هذه المرحلة الجديدة أن قبول المجتمع التركي للسوريين تحول جزءٌ كبيرٌ منه إلى “تحمُّل”؛ وذلك من خلال إجراء استبيانات ميدانية شاملة ومجموعات نقاش مركزة لمراقبة اتجاهات التغير الذي يطرأ على الطرفين. وتقديم توصيات مهمة على أساسها في شتى المجالات.
في الحقيقة توجد نسبة كبرى من المواطنين الأتراك -بحسب الملخص التنفيذي لمؤشر الضغط- ترفض إعطاء السوريين الجنسية التركية. وترى أن تزايد عددهم من أبرز الملفات التي تواجِه الدولة الآن. وأن الوافدين قد يتسببون مستقبلاً في أزمات اقتصادية للمواطنين. وهي مؤشرات غير خطيرة حتى الآن إلا أنها مُقلقة. لأنها ربما تحول الأمر من دعم إنساني شعبي إلى قضية سياسية وأمن قومي تستتبع معه إجراءات قاسية بحق اللاجئين.
من ناحية أخرى فإن السوريين -ولمواجهة تحديات الغربة واللجوء- عكفوا على تكوين شبكة تضامن وهوية سورية جديدة في تركيا. توفّر لهم بيئتهم الخاصة وتمنحهم الثقة والتماسك. هذه النقطة تحديداً تشغل بال المواطنين الأتراك الذين أصبحوا أكثر قلقاً من فقدان هويتهم لحساب الهوية السورية العربية. فالأمر بالنسبة إليهم تعدى الخوف من تأثير الأعداد المتزايدة للسوريين على فرص العمل وتزايد القضايا الأمنية وارتفاع تكاليف المعيشة وتعطل الخدمات.
بصفة عامة ينبغي للاجئين السوريين بذل المزيد من الجهد لإثبات أنفسهم في المجتمع التركي على شتى المستويات. وأنهم نسيج من هذا البلد وعامل من عوامل نموه واستقراره وليس عامل ضعف وعرقلة. والاستفادة من العوامل الثقافية والدينية المشتركة التي لعبت دوراً كبيراً في تقريب المسافات بين الطرفين منذ بداية اللجوء.
المؤكد في الأمر وفقاً لاستطلاعات أجراها البروفيسور أردوغان في بحثه لعام 2019م. وأوردها ضمن نتائج الملخص التنفيذي لـ”مؤشر الضغط للسوريين 2019″. أن عدداً غير قليل من اللاجئين يتردد بشأن العودة إلى سوريا. حتى وإن انتهت الأعمال العسكرية في البلاد في وقت قريب. وبدأت رحلتها في إعادة الإعمار. فتأثير هذا العامل على عودة اللاجئين محدود للغاية.
في نهاية المطاف يحتاج الطرفان السوري والتركي -أفراداً ومؤسسات- إلى إيجاد آلية واقعية للتواصل الفعلي والتعايش المتناغم مع طبيعة كل منهما. بما يزيد درجة القبول الاجتماعي بينهما. ويُقلل من فرص بناء حواجز وحدوث صراعات تتطور مستقبلاً لنزاع لا يُدرى عواقبه.