تعتبر الزراعة من أهم النشاطات الاقتصادية والاجتماعية في سوريا، لا سيما أن سوريا تعتبر عموما من البلدان الزراعية. كما تعتبر سوريا من المواطن الأولى للزراعة في العالم، ففيها تم اختراع أول محراث وأول عجلة. ومن هنا وانطلاقا من أهمية الزراعة، هل تناسبت السياسات الحكومية في سوريا قبل الحرب السورية وبعدها مع حيوية هذا القطاع؟ وهل لعبت السياسات الزراعية دورا في تحقيق التوازن في البلاد؟
تحتل الزراعة دورا حيويا في سوريا، سواء على صعيد الحكومة أو على مستوى الأفراد. فسوريا تعتبر بلدا زراعيا، وحققت الزراعة في سوريا الأمن الغذائي للسكان طيلة عقود طويلة. كما حققت الاستقرار الاجتماعي للسوريين من خلال توفيرها فرص العمل لهم. فالعمل الزراعي عموما حقق الاستقرار الاجتماعي منذ فجر التاريخ، وذلك من خلال توفير فرص العمل للقرويين.
من جهة أخرى لعبت الزراعة دورا هاما على صعيد الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد. فقبل عام 2011 كانت الزراعة تستقطب 30% من عمالة البلاد. كما ساهمت ب 18% من الناتج المحلي الإجمالي، ومما لا شك به أن الاستقرار السياسي يرتبط بشكل مباشر بالاستقرار السياسي.
عاشت سوريا استقرارا في القطاع الزراعي طيلة عقود طويلة. إلا أن هذا الاستقرار بدأ بالتدهور بعد عام 2000 عموما، وبعد عام 2006 على وجه الخصوص. فتدهور الإنتاج الزراعي بسبب الجفاف الذي أصاب البلاد عام 2006 واستمر حتى عام 2010. وتعتبر موجة الجفاف هذه الأسوأ منذ أكثر من خمسة عقود.
بسبب الجفاف الذي أصاب سوريا بعد عام 2006 تراجع الإنتاج الزراعي بنسبة 10,7%. كما نشطت الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة، لا سيما للمدن الكبرى وبالأخص حلب ودمشق. علاوة على ذلك تراجع عدد العاملين في الزراعة بنسبة 20% مما سبب هجر 330,000 فرصة عمل في الزراعة غالبيتها كانت في المنطقة الشرقية.
لعبت السياسات الحكومية للنظام السوري قبل الحرب السورية دورا هاما في تدهور القطاع الزراعي. يعتقد البعض أن التدهور الحقيقي للقطاع الزراعي السوري بدأ في عام 2006. ولكن في الحقيقة إن تدهور هذا القطاع بدأ قبل ذلك، فالتدهور بدأ في عام 2000 وتحديدا مع بدء تطبيق سياسة السوق الاجتماعي.
سببت سياسة السوق الاجتماعي لبرلة الاقتصاد السوري بسرعة ودون تمهيد. وهذه السياسة أدت لانخفاض دور الإنتاج المادي وارتفاع سوق الخدمات، وهذا الأمر انسحب على الإنتاج الزراعي. فتراجع الاهتمام الحكومي بالزراعة، وانعكس هذا الأمر من خلال عدة قرارات صدرت في فترة الجفاف وفاقمت الوضع.
تطلبت أزمة الجفاف في سوريا إجراءات حكومية استثنائية، ولكن بدلا من ذلك اتخذت حكومة النظام جملة قرارات سلبية للغاية. على سبيل المثال رفعت الحكومة سعر لتر المازوت المستخدم في الري في عام 2008 وفي ذروة الجفاف من 0,14 دولار إلى 0,53 دولار. فارتفعت تكلفة الري وترك العديد من الفلاحين سقاية أراضيهم.
لم تتوقف القرارات الحكومية السلبية المتعلقة بالزراعة، ففي عام 2009 وفي سنوات الجفاف أيضا رفعت الحكومة سعر كيس السماد من 9,6 دولار إلى 19,15 دولارا. ولذلك تراجعت إيرادات الفلاحين، فانخفضت دخولهم الشهرية إلى 100 دولار فقط. فتفاقم الوضع الزراعي وبدأت سوريا باستيراد القمح!
في ظل تراجع الاستقرار الزراعي في البلاد وفي ظل الجفاف سعت عدة جهات دولية لتقديم العون لسوريا. ولكن النظام لم يتعاون مع هذه الجهود، ففي عام 2009 نظمت اليونيسيف تقريرا حول هجرة الفلاحين من الحسكة، ولكن النظام لم يسمح للفلاحيين بالتعاون مع المنظمة.
حاول المسؤولون السوريون التقليل من آثار الجفاف، ورفضوا الاعتراف بحدوث أزمة في القطاع الزراعي السوري. مما انعكس سلبا على تعاون الجهات الدولية، كما سعى النظام لتقديم تبريرات حول هجرة الفلاحين وإخفاء دور الجفاف والسياسات الخاطئة.
لم تقتصر الممارسات الحكومية على ما سبق، علاوة على ذلك قام النظام بالتضييق على لجان صحفية سعت لتقصي ما يحدث في سوريا. زيادة على ذلك ادعى النظام بأن الأخبار حول أزمة زراعية في سوريا هي محض ادعاءات، وتقف من خلفها جهات سياسية.
تعد الزراعة من أهم عوامل الاستقرار الاجتماعي، ولذلك ترتبط السياسات الخاطئة بضعف الاستقرار والوئام المجتمعي. بناء على ذلك سببت السياسات الحكومية خللا هيكليا في البنية الاجتماعية السورية. فمئات الآلاف من القرويين هجروا قراهم واستوطنوا في محافظات أخرى.
ساهمت الهجرة الداخلية للفلاحين في خلط الأوراق الاجتماعية في سوريا. فالعديد من المخيمات العشوائية بنيت على أطراف دمشق وفي ريف دمشق ودرعا، وهذه الهجرة كانت من المحافظات الشرقية عموما ومن الحسكة على وجه الخصوص.
عاش الفلاحون المهاجرون حياة غير مستقرة اجتماعيا وماليا في مخيماتهم الجديدة. وغالبيتهم لم يكونوا مستقرين اجتماعيا، كما أن بعضهم هاجر إلى لبنان. وكان يطلق على بعضهم “غجر الجزيرة” وهذا المصطلح يتعلق بالنظرة الدونية لهم، لذلك عانى هؤلاء المهاجرون من خلل اجتماعي أضعف ثقتهم بدولتهم.
قد تكون الهجرة عاملا إيجابيا في تلاقح الثقافات، وهذا الأمر صحيح في حال الهجرة الطوعية. ولكن وفي ظل الهجرة القسرية تكون الهجرة ذات عبء اجتماعي على المهاجر وعلى البيئة المستضيفة، ولذلك عززت هجرة الفلاحين الداخلية من التوتر الاجتماعي السوري وإن لم يكن ظاهرا ولكنه كان نارا تحت الرماد.
تقول بعض الدراسات بأن الجفاف الذي أصاب سوريا هو سبب غير مباشر للثورة السورية. وهذا الأمر غير دقيق، فالجفاف ليس من صنع الحكومة حتى يكون سببا في الثورة. ولكن من جهة أخرى يمكن القول بأن تعامل الحكومة مع أزمة الجفاف هي ما ولدت الانطباع السيئ عن النظام وفاقمت الوضع الداخلي.
تتعدد الأسباب المؤدية للثورة السورية، فمنها على سبيل المثال قمع الحريات والفساد السياسي والاقتصادي. وبالتأكيد لا يمكن إهمال السياسات الزراعية للحكومة، والتي حولت سوريا من بلد مكتف زراعيا إلى بلد مستورد للقمح. كما سببت بأزمات اجتماعية للفلاحين والذين يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع السوري.
في نهاية المطاف لا بد من التذكير بأن التغييرات الاجتماعية الكبرى تقف وراء بعضها السياسات الزراعية. ومنها ما يترك أثرا في الذاكرة الجمعية للشعوب، للتحول إلى قصص تراثية تتناقلها الأجيال.
تتعدد القصص الشعبية التي تبرز دور السياسات الزراعية في إعادة تشكيل المجتمعات، فمنها على سبيل المثال قصة شعبية يتناقلها بعض الفلاحين في الساحل السوري وفي ريف حلب والريف الشرقي لحمص تسمى “الجفتليك”. وهي تسمية تركية تعود للحقبة العثمانية وترتبط بالسياسات الزراعية للسلطنة العثمانية. والتي سببت تغييرا ديمغرافيا كبيرا في سوريا قبل ما يزيد عن قرن من الزمن.