شَارِك المَقَال

خلال العقدين الماضيين بدأت الصين تتحرّك بعيداً عن عالمها القديم “شرق القارة الآسيوية“. ودقت أبواب إفريقيا بقوة ناعمة ترتكز على أنشطة اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية وثقافية. تهدف لتوسيع نفوذها خارج آسيا وإيجاد بدائل أكثر فعالية لسياساتها الخارجية النمطية. لكن البعض يرى ذلك استعماراً بثوب جديد. والسؤال هنا: ما مصير دول إفريقيا الغارقة في بحر الديون الصينية؟

 

كيف تعزز الوجود الاقتصادي للصين في دول إفريقيا؟

قبل كل شيء بدأ انطلاق الصين نحو دول إفريقيا بعد أن أصبح اقتصادها ضمن أقوى الاقتصادات عالمياً. لكنه كان لا يزال بحاجة إلى مقدّرات القارة السمراء ليتعزّز أكثر ويصبح أصلب عوداً وأشد قوة. وهذا ما تحقّق بالفعل حيث مهّدت له إفريقيا بمواردها الاقتصادية سبلاً جديدة للتفوق على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

 

من جهة أخرى تعزّز الوجود الاقتصادي للصين في إفريقيا مع تراجع المساعدات الأمريكية لدول القارة. علاوة على انخفاض مؤشرات التجارة الثنائية بينهما. ففي 2019م انخفض حجم التجارة الإفريقية مع الولايات المتحدة لـ56 مليار دولار. بينما ارتفع حجم التجارة مع الصين من 102 إلى 192 مليار دولار في نفس الفترة بين 2008 و2019م.

 

وفي الوقت نفسه لا توجد دولة أخرى تقترب من حجم استثمارات الصين في القارة الإفريقية. فقد تجاهلت الإدارة الأمريكية تعزيز العلاقات الاقتصادية مع القارة السمراء. حتى إن الرئيس السابق دونالد ترامب تجاهل زيارة إفريقيا ليكون أول رئيس منذ 27 عاماً يتجاهل زيارتها.

 

إن تأثير التوسع الاقتصادي الصيني المتزايد في إفريقيا له تداعيات عالمية خطيرة على أوروبا والولايات المتحدة. حتى إن الشركات الأجنبية تواجه منافسة صعبة مع الشركات الصينية على إبرام عقود تجارية في إفريقيا. ولذا غيّرت إدارة بايدن استراتيجيتها واعدةً بالمشاركة بشكل أكبر مع إفريقيا.

 

كيف تنامى النفوذ الاقتصادي الصيني في إفريقيا؟

من الأمثلة على تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في إفريقيا مشاركتها منذ 2015م في تدشين الطريق المغربي السريع. وهو الطريق الذي يربط بين الصحراء المغربية وليبيا. وسينجح بعد اكتماله في الربط بين 60 مليون شخص من إجمالي 100 مليون شخص يعيشون في المنطقة. وأنفقت بكين على هذا المشروع نحو 11 مليار دولار.

 

من ناحية أخرى وفي ضوء استراتيجية الصين في تطويق العالم اقتصادياً عمدت الصين إلى إشراك إفريقيا في مشروع الحزام والطريق. وهو المشروع الذي يمتد عبر ثلاث قارات. ويستهدف 60% من سكان العالم بهدف توسيع المجال الاقتصادي لصالحها.

 

في الوقت الحالي تعتبر دول شرق إفريقيا محوراً مركزياً في مشروع الحزام والطريق. ما دفعها نحو الاستثمار في البنية التحتية. مثل: إنشاء خط سكة حديد قياسي يربط مومباسا بنيروبي. وخط السكة الحديد الكهربائي من أديس أبابا لجيبوتي. كما أنشأت قاعدة بحرية في جيبوتي لتأمين المشروع واستثماراتها في المنطقة.

 

كما خاضت ناميبيا شراكة مع الصين وبنك التنمية الإفريقي في عام 2013م بهدف توسيع ميناء محلي بقيمة 300 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك ستستفيد دولة أنجولا من تدشين محطة طاقة كهرومائية بتمويل من الصين يبلغ نحو 4.5 مليار دولار.

 

هل تنافس الصين البنك الدولي وصندوق النقد؟

حالياً تعكف الصين على تدشين منظمات اقتصادية تنافس البنك الدولي وصندوق النقد. مثل بنك التنمية الصيني الذي موّل اعتباراً من 2018م نحو 500 مشروع في 43 دولة إفريقية بقيمة 50 مليار دولار. كما تملك الصين مناصب قيادية في المؤسسات الفاعلة في إفريقيا. فمن بين 15 وكالة تابعة للأمم المتحدة تترأس الصين أربعة منها.

 

من جهة أخرى دفعت المشروعات والاتفاقيات التي عقدتها الصين مع إفريقيا بعض الدول للاقتراض منها. فالصين تمثل 20% من إجمالي ديون 8-10 دول إفريقية. كما قدمت 20 قرضاً جديداً لكينيا وزامبيا ونيجيريا في 2018 و2019م. واقترضت دول شرق إفريقيا نحو 29 مليار دولار من الصين لمشاريع البنية التحتية والطاقة والبناء.

 

بناء على ذلك تقوم بكين بزيادة نفوذها في إفريقيا باستخدام القروض أيضاً. فعلى سبيل المثال ألغت الصين قرضاً على الكاميرون بقيمة ـ78 مليون دولار كان مخصصاً لتطوير البنية التحتية. مقابل دعم الكاميرون لترشح الصين كرئيس لمنظمة الأغذية والزراعة. وذلك اعتباراً لكون الكاميرون إحدى الدول البارزة وسط إفريقيا ذات الاقتصاد القوي والمتنوع.

 

لكن ارتفاع مؤشرات الشراكة الاقتصادية بين إفريقيا والصين دفع بعض القادة الغربيين لوصف آليات التمويل الصينية بـ”مصيدة ديون”. تعمد فيها بكين لإثقال كاهل دول القارة بالديون بما يعزز من وجودها ويزيد من قوتها الاستراتيجية في المنطقة.

 

كيف تُستخدم القروض للاستيلاء على الأصول الإفريقية؟

تزداد المخاوف بشأن مصادرة الصين لأصول استراتيجية في دول إفريقية أقرضتها بكين ملايين الدولارات إذا تعثرت في السداد. حتى إن بعض هذه الدول بلغت حد الديون بها نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي بشكل قد تعجز عن سدادها فيما بعد.

 

في الوقت الحالي استولت الصين على ميناء هامبانتوتا و15 ألف فدان من الأرض في سيريلانكا. وذلك بعد مفاوضات طويلة مع الصين نتيجةَ عجز سيرلانكا عن سداد الديون. كما استولت على ميناء جوادار الباكستاني بعقد إيجار لمدة 40 عاماً بعد أن احتفظت الصين بنسبة 90% من إيراداته.

 

وفي الوقت نفسه تملك الشركات الصينية استثمارات في الأسهم الخاصة بمشاريع جيبوتي. وفازت بعقود إدارة في الموانئ والسكك الحديدية. كما منحت الحكومة التجار الصينيين الإشراف على ميناء دوراليه. وتمتلك الصين حصة 23.5% من الشركة القابضة التي تملك محطة حاويات دوراليه وميناء جيبوتي الجاف وميناء دوراليه متعدد الأغراض.

 

نتيجة لذلك مرّت جيبوتي بضائقة ديون بعد أن بلغت نسبة الدَّين العام بها 104% من الناتج المحلي الإجمالي. ولذلك وصل نصيب الصين منها ما يزيد عن 85% من إجمالي الدَّين الخارجي. مما يشكل مخاطر كبيرة يمكن أن تطغى على استقلالها الاقتصادي. ولذلك سعت الحكومة للتفاوض بهدف هيكلة هذه القروض.

 

من جهة أخرى استدانت كينيا من الصين ما لا يقل عن 9.8 مليار دولار بين عامي 2006 و2017م. بهدف إتمام مشروع خط سكة حديد جديد بطول 485كم بين نيروبي ومدينة مومباسا الساحلي. وهذا ما يجعلها ثالث أكبر مُتلقّ للقروض الصينية في إفريقيا.

 

بالإضافة إلى ذلك فإن فشل المشروع الكيني أدّى لتراكم الديون على الحكومة. حيث يبلغ إجمالي الدَّين العام في البلاد نحو 60 مليار دولار بما يعادل 61% من الناتج المحلي الإجمالي. وتذهب 72٪ من جميع ديونها الخارجية إلى الصين. وتزداد المخاوف من استيلاء الصين على ميناء مومباسا إذا تخلّفت الحكومة عن السداد.

 

كما استفادت إثيوبيا من الدعم الصيني في مشروع إنشاء سكة حديد تبلغ قيمته 475 مليون دولار في العاصمة. وكذلك إنشاء الطريق الدائري بنحو 86 مليون دولار قدمتها بكين. وبلغت نسبة الديون الحكومية 59٪ تملك الصين حصة 50% منها. وفاوضت الحكومة الإثيوبية بكين لإعادة هيكلة فترة سداد القروض من 10 إلى 30 عاماً.

 

لماذا ترفض دول إفريقيا القروض الصينية المشروطة؟

مخاطر فقدان الأصول الاستراتيجية نتيجة تراكم الديون دفعت بعض الدول الإفريقية لإلغاء مشروعاتها مع الصين. فألغى الرئيس التنزاني الراحل جون ماجوفولي قرضاً بقيمة 10 مليارات دولار. وهو القرض الذي كان سلفه جاكايا كيكويتي قد وقَّع عليه في إطار صفقة ميناء باجامويو.

 

على وجه الخصوص يأتي إلغاء المشروع بسبب الشروط المتعسفة التي فرضها المستثمرون الصينيون مع الحكومة التنزانية. حيث ينص الاتفاق على الحصول على 30 سنة لضمان القرض. زيادة على إيجار متواصل لمدة 99 عاماً. إضافةً إلى أن الحكومة التنزانية لن تكون صاحبة سلطة على الميناء طوال هذه فترة التعاقد.

 

بسبب تداعيات جائحة كورونا وما ألحقته من خسائر اقتصادية بالقارة السمراء. يضغط صندوق النقد والبنك الدولي ومجموعة العشرين الكبرى (G20) من أجل وقف دفع الديون الثنائية المستحقة على الدول الفقيرة. ويحث الصين على إلغاء بعض ديون دول إفريقية وتحويل الباقي لقروض طويلة الأجل منخفضة الفائدة.

 

لكن بشكل عام تلقى محاولات الصين لتمويل مشاريع البنى التحتية في الدول الإفريقية استحساناً كبيراً من القادة الأفارقة. على سبيل المثال فالرئيس الرواندي كاجامي قال في عام 2018م: “مَن ينتقدون الصين في سياستها للقروض يقدّمون القليل وإفريقيا بحاجة للتمويل من أجل التنمية”.

شَارِك المَقَال