يعاني النظام السوري من العقوبات الاقتصادية الغربية منذ فترة السبعينيات. وتمّت زيادة هذه العقوبات في 2003م إثر اجتياح العراق من خلال قانون “محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان”. ثم جرى تشديدها عقب ثورة 2011م. غالبية هذه العقوبات استهدفت كيانات وأفرادًا اتُّهِمُوا بانتهاك حقوق الإنسان. والسؤال المهم هنا: كيف تضرر الاقتصاد السوري من العقوبات على القطاع المالي؟
تمثلت أقوى العقوبات الاقتصادية على سوريا في “قانون قيصر” الذي أقرّه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نهاية 2019م. والذي فرض عقوبات كبيرة على سوريا. حيث يلاحق القانون الأفراد والشركات التي تموّل النظام من السوريين والأجانب والمصانع العسكرية والبنى التحتية والمصرف المركزي السوري.
“قانون قيصر” الأمريكي يسمح بمعاقبة روسيا وإيران حال استمرار دعمهما السياسي والاقتصادي للنظام السوري. ولذلك فمن المتوقع انسحاب شركات روسية متخصصة في مجال الطاقة من الأراضي السورية وإلغاء استثماراتها هناك وهو ما سيؤثر على اقتصاد البلاد. فسوريا تستورد نحو 60% من احتياجاتها المحلية من الغاز.
العقوبات الاقتصادية التي طالت الاقتصاد السوري أنتجت آثارًا سلبية حادة على القطاعات المالية والخدمية الحيوية بصفة خاصة. حيث تعطلت آليات عملها بشكل كبير. وشملت هذه القطاعات الزراعة والتجارة الداخلية والأمن الغذائي والشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة والقطاع المصرفي والمالي.
بعض العقوبات الاقتصادية الأمريكية– الأوروبية على النظام السوري أحادية الجانب. ساهمت في تحويل قسم كبير من المعاملات الاقتصادية من القطاعات الوطنية إلى قطاعات غير رسمية. ما أدى إلى وجود اقتصاد آخر موازٍ وزيادة تكاليف المعاملات التجارية التي يتحمَّلها الأفراد لتلبية احتياجاتهم اليومية.
العقوبات على النظام في 2011م أدت لانخفاض حادّ في صادرات القطاع الخاص السوري. بما فيها الصادرات غير النفطية. وتراجعت الواردات ولكن ليس بنفس الوتيرة. وانتقل قسم كبير من الواردات الرسمية للقطاع غير الرسمي. فارتفعت الواردات السورية “غير محدَّدة بلد المنشأ” من 1% في 2010م لـ40% في 2018م.
انتقال الواردات الرسمية للقطاع الخاص جاء مع اعتماد معظم المصارف والشركات الأجنبية ممارسات الإفراط في الامتثال وتجنُب المخاطر. سواء تلقائيًّا أو بعد التعرض لضغوط دولية. وهي ممارسات صادرة عن الهيئات الرقابية وخاصةً الأمريكية وتتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومحاربة الفساد.
إجراءات تجنُّب المخاطر والإفراط في الامتثال التي فرضتها المصارف والشركات الأجنبية أدت لصعوبات كبرى في توفير السلع غير المشمولة بالعقوبات. ولم يتم وضع أي إجراء للتعامل مع تبعات هذه الممارسات على السلع الإنسانية. حتى فيما يتعلق بوكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الرسمية الدولية.
في قطاع الطاقة الحيويّ كان إنتاج النفط بالأساس يعاني بشكل كبير من انخفاض الإنتاج قبل ثورة 2011م. وبعد العقوبات وخاصة الحظر الأمريكي على استيراد سوريا للنفط ومشتقاته. انخفض ميزان تجارة النفط ومشتقاته من فائض بقيمة 1.2 مليار دولار في 2011م إلى عجز بقيمة 4.4 مليار دولار في 2012 فقط.
نُدرة الوقود وتضاعف أسعاره بشدة أحدثا أزمة كبرى في الشارع السوري. فتم تقنين الكهرباء وخفض إنتاج المياه المنزلية ومياه الري. وتأثر أداء الشركات الصغيرة والمتوسطة سلبًا. واعتمد النظام بالكامل على إمدادات حليفيه: إيران وروسيا. وتوسَّعت عمليات تهريب النفط من المناطق الخاضعة لـ”داعش”.
منذ 2012 أصبحت سوريا تستورد النفط ومشتقاته أكثر مما تُصدِّر، ورغم انخفاض قيمة العجز تدريجيًّا من 4.4 مليار دولار بسبب القيود الحكومية المفروضة على الاستهلاك وانخفاضه. بقيت نسبة استيراد النفط ومشتقاته تصل لـ40 %من إجمالي الواردات ، مما ضاعف فاتورة واردات النظام من طهران وموسكو.
العقوبات الاقتصادية على مصرف سوريا المركزي والمصرف التجاري السوري دفعت المنظمات الدولية غير الحكومية لوقف التعاملات الرسمية معهما. واللجوء لنظام “الحوالة” غير الرسمي. ما ألحق ضررًا بالمواطنين الذين يعتمدون على التمويل الخارجي من السوريين في الخارج ومن المنظمات الإنسانية الدولية.
العقوبات الاقتصادية على النظام أدت لكبح نمو أبرز المصارف الخاصة في القطاع المصرفي الوطني. رغم أنها لم تكن على قائمة المؤسسات المستهدفة من العقوبات بل مرتبطة بمصارف لبنانية وأردنية. لكنها خسرت علاقاتها مع المصارف الغربية “الوسيطة” بسبب سياسات الامتثال وتجنب المخاطر.
وبسبب هذه العقوبات تعطل نمو المصارف الخاصة في سوريا. وبدلًا منها تصدرت المصارف التابعة لبعض دول الخليج سواء المصارف التقليدية أو الإسلامية القطاع المصرفي في البلاد. رغم أنها حديثة العهد بالسوق المحلية ورغم العقوبات المفروضة على بعض المساهمين فيها.
العقوبات المفروضة على “المركزي” السوري ساهمت في تقليل التدفقات المالية الخارجية بصورة كبيرة. ما يعني خنق نشاطه وفَقْد سيطرته على سعر الصرف وهروب غالبية المصارف الأجنبية من البلاد. عدا المصارف الإسلامية والخليجية التي حافظت على علاقاتها مع المصارف المعنية بعمليات التجارة الأجنبية.
العقوبات الاقتصادية على سوريا أدت لتضاؤل فرص العمل. والتراجع في نمو الشركات المتناهية الصغر. وتباطؤ كبير في إنشاء شركات صناعية جديدة متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة. وتركزت المشاريع الجديدة بشكل رئيس على الإنتاج الغذائي. خاصةً بعد الصعوبات التي واجهها النظام في تأمين الغذاء لمواطنيه.
علاوةً على أن أنشطة الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة واجهت عقبات فنية بسبب العقوبات. مع عدم توفر الكهرباء في البلاد. وانخفاض الواردات من النفط والغاز والكهرباء مع البلدان المجاورة. إضافة إلى القيود المفروضة على استيراد رؤوس الأموال وقطع الغيار لمحطات الكهرباء من الخارج.
إن العقوبات عمّقت اعتماد الاقتصاد السوري على الاقتصاد اللبناني. ومع توسّع الأزمة الاقتصادية اللبنانية في 2019م زادت التداعيات على دمشق. فمع تجميد أصول رجال الأعمال السوريين لم يعد بإمكان شركاتهم الصغيرة والمتوسطة المملوكة لهم استخدام أصولها أو استيراد منتجات غير مدرَجة بالعقوبات.