تعتبر الهجرة من سمات الحياة البشرية. فمنذ ظهور الإنسان والهجرة ملازمة له. وبعض الهجرات الكبرى غيّرت مسار التاريخ البشري. وتقسم الهجرة إلى طوعية وقسرية. ويطلق على القسرية مصطلح اللجوء أو النزوح. وتترك الهجرة بكلا نوعيها أثرها الاجتماعي والديمغرافي والسياسي. ولكن كيف نفهم حركة هجرة الأفراد اقتصادياً؟
بصفة عامة ترتبط الهجرة بآثار اقتصادية على عدة مستويات. فهي تترك آثارها على الدول الفاقدة والمستقبلة وعلى المهاجرين أنفسهم. وهو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بـ”اقتصاد الهجرة”. وبغض النظر عن كونها طوعية أو قسرية فردية أو جماعية فإن أثرها الاقتصادي حاضر موجود. وهذا ما توثقه العديد من البحوث والدراسات.
من جهة أخرى وفيما يتعلق بآثار الهجرة على الدول الفاقدة. فهي تسبّب تراجعاً في بعض المؤشرات الاقتصادية. على وجه الخصوص تراجع الناتج المحلي الإجمالي وتراجع الإنتاجية لا سيما في النوع الطوعي. لأن العمالة الخبيرة هي الأكثر طلباً للهجرة. كما تسبب نقصاً في اليد العاملة الخبيرة وتراجعاً في أداء بعض القطاعات الإنتاجية.
كما أن لها بعض الفوائد للدول الفاقدة لا سيما من ناحية التحويلات الخارجية. والتي تتم في غالبية الأحيان بالعملات الأجنبية. فالهند على سبيل المثال تتلقى 43 بليون دولار سنوياً كتحويلات من المغتربين الهنود.
بالإضافة إلى ذلك تؤثر الهجرة على اقتصاد الدول المستقبلة سلباً وإيجاباً. فمن الجوانب السلبية استنزاف البنية التحتية نتيجة ازدياد عدد السكان. لا سيما في الهجرات الكبيرة المفاجئة كالنزوح واللجوء. كما تتسبب زيادة في معدلات البطالة على المستوى القصير وزيادة تكاليف التأمين والرعاية الصحية.
وفي الوقت نفسه وفيما يتعلق بمنافعها على اقتصاد الدول المستقبلة. فهي تستفيد من خبرات المهاجرين. كما تؤدي موجات الهجرة الكبيرة لزيادة في الطلب الكلي. وبالتالي تحفيز العرض الكلي وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. كما تساعد في زيادة مرونة سوق العمل. وذلك كون المهاجرين غالباً ما يعملون في مِهَن لا يعمل بها السكان الأصليون.
في الواقع غالباً ما يتم تجاهل منافع الهجرة للدول المستقبلة. ويتم الإشارة لسلبياتها وذلك لعدة أسباب. من أهمها: تضخيم الآثار السلبية بهدف الحصول على إعانات دولية. فعلى سبيل المثال يقول الأردن إنه تكلف 590 مليون دينار أردني على اللاجئين السوريين. إلا أنه حصل من المنظمات الدولية على 2,4 مليار دولار كإعانات مالية.
وفي إطار المنافع الاقتصادية على الدول المستقبلة فإنها تحقق منافع على المدى المتوسط. وفي هذا الإطار فإن منظمة “تينت” Tent Foundation الأمريكية ذكرت في تقرير علمي أن إنفاق يورو واحد على اللاجئين يحقق مكاسب اقتصادية للدولة المضيفة تبلغ 2 يورو في غضون خمس سنوات. إلا أنه غالباً ما يتم تجاهل هذه المنافع.
في الحقيقة تعتبر الهجرة بشكليها الطوعي والقسري من سمات عالم اليوم. فالأمم المتحدة تقول إن عدد المهاجرين الحاليين في العالم يتجاوز 200 مليون شخص. وهو ما يشكل ما يقارب من 3% من عدد سكان العالم. وهذا يعني أن آثار هذه الهجرة الواسعة النطاق سوف تكون على المدى الطويل وليس القصير والمتوسط.
تثبت حقائق التاريخ أن الهجرة من شأنها تغيير وجه العالم الاجتماعي والديمغرافي والاقتصادي لدرجة عميقة التأثير. وهذا التأثير لا يمكن ملاحظته على المدى القصير والمتوسط. فلا تظهر هذه الآثار إلا على المدى الطويل. فهى بثقلها الاجتماعي والنفسي على المهاجرين والمستقبلين تترك آثاراً اقتصادية لا يمكن محوها.
لتوضيح هذه النقطة لا بد من ربط علم الاقتصاد بالعلوم الأخرى. لا سيما علم النفس وعلم النفس التطوري وعلم الاجتماع. وهنا يبرز مفهوم الذاكرة الجمعية. وعلى الرغم من كون هذا المفهوم مختصاً بعلم الاجتماع وعلم النفس التطوري فإنه بالإمكان إسقاطه اقتصادياً. لأنه يقدم تفسيرات لبعض الظواهر الاقتصادية غير المفهومة.
على سبيل المثال يعتبر الأرمن في سوريا ولبنان من أكثر الشرائح السورية إتقاناً لعملهم. وهناك فجوة حادة بين الأرمن في المهجر وبين الأرمن في أرمينيا. فما سبب هذا التفاوت في الإنتاجية؟ كما أن الأمريكيين السود يعتبرون ذوي إنتاجية مرتفعة للغاية. وهناك اختلاف حاد وجذري عن إنتاجية أقرانهم في إفريقيا، فهم يشتركون مع الأفارقة في جذورهم قبل أن تنقلهم قوارب العبودية إلى أمريكا.
كما أن نمط الإدارة الأمريكية يختلف عن النمط الأوروبي. على الرغم من أن الأوروبيين والأمريكيين البيض يشتركون في ذات الجذور قبل أن يتم اكتشاف الأمريكتين وتقوم سفن العالم الجديد بنقل مئات الآلاف من الأوروبيين إلى الأرض الجديدة. فما سبب هذا التباين بين نمطي الإدارة بين الفروع رغم الاشتراك في الأصول.
تشكل الهجرة المعلم الرئيس والمسبب الأهم في اختلاف طبيعة النشاط الاقتصادي بين الفروع والأصول. فهي تترك أثراً عميقاً في طباع الأفراد الاجتماعية والنفسية. ولاحقاً ينسحب الأثر على طبيعة النشاط الاقتصادي. وهذا الأثر لا يمحى إلا في حال حدوث هجرات جديدة تمحو آثار السابقة.
يقول علم النفس التطوري وعلم النفس الجماعي: إن الأفراد في ظل الهجرة الجماعية يكونون أكثر خوفاً وقلقاً من الفقر والجوع. على عكس الاستقرار النفسي والاقتصادي في البلد الأم. مما يدفعهم للعمل بجد مبالغ فيه. وذلك بهدف ضمان الرزق والاستقرار الاقتصادي. كما يسعون بشكل غير واع لكسب احترام الشعب المضيف من خلال عملهم كداعم لاستقرارهم الاجتماعي.
إن التفاني في العمل وزيادة الإنتاجية التي يقوم بها المهاجرون تتحول مع الأيام لطبع أصيل. ولاحقاً ومع توالي الأجيال يتحول إلى سمة أصيلة وتورث للأجيال القادمة من خلال الجينات. فالأحفاد لم يهاجروا ولم يعانوا من ضغوط الهجرة إلا أنهم ورثوا عن أسلافهم تبعات الهجرة الإيجابية المتمثلة في زيادة الإنتاجية.
وهذا ما يفسّر اختلاف إنتاجية الأرمن المهاجرين والأمريكيين السود عن إنتاجية أقرانهم في البلاد الأم. فعلم النفس التطوري قدّم تفسيرات لبعض الظواهر الاقتصادية غير المفسّرة وفق قوانين الاقتصاد. وهذا ما يؤكد صحة مفهوم المعرفة الجديد الذي ينادي بتمازج العلوم المختلفة. وهو ما يتقاطع بشكل أو بآخر مع مفهوم اقتصاد المعرفة.
إن هذا التفسير قد يقدّم بعض التفسيرات لزيادة إنتاجية اللاجئين السوريين في دول اللجوء. فوفقاً لدراسة صادرة عن مركز الهجرة القسرية التابع لجامعة أكسفورد فإن اللاجئين السوريين ساهموا في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لدول اللجوء مجتمعة بما يقارب 25 مليار دولار في عام 2018 فقط. وهذا يؤكد زيادة إنتاجية السوريين في ظل الهجرة القسرية.
من جهة أخرى لا يقصد بهذا الطرح أن إنتاجية السوريين في البلد الأم كانت منخفضة. ومما لا شك فيه أن طبيعة العلاقات الاقتصادية في سوريا ساهمت في تدني إنتاجية السوريين. إلا أن الحكم الموضوعي يحتّم الاعتراف بأن النزعة الاستهلاكية كانت مسيطرة في سوريا قبيل الثورة. وأن النزعة الإنتاجية سيطرت بعد الهجرة القسرية.
تتعدد الدراسات التي تناولت اقتصاد الهجرة واللجوء على مستوى العالم، إلا أنه لم يسجل حتى الآن تناولها من وجهة نظر نفسية. فالمزج بين علم الاقتصاد وعلم النفس التطوري وعلم النفس الجماعي من شأنه الخروج بتفسيرات دقيقة لظواهر يعجز علم بمفرده عن تقديم تفسيرات لها.
في نهاية المطاف لا ينبغي أن يُفهم الطرح السابق كله بأنه تسويق للهجرة بمختلف أنواعها. فالهجرة ذات عبء نفسي ضاغط على الأفراد. ولكن حركة التاريخ تفرض الهجرة. فالطغاة والمستبدون يعتبرون مسؤولين عن جزء كبير من الهجرة القسرية. إلا أنه وفي ظل العجز عن إيقافها يغدو البحث عن إيجابياتها أضعف الإيمان.