بالطبع يبرز التضخم ضمن أبرز المصطلحات الاقتصادية المهمة التي تتحكم في رسم السياسات واتخاذ القرارات الاقتصادية في مختلف دول العالم. ويشير التضخم للزيادة في أسعار السلع والخدمات على مدى فترة زمنية محددة. وفي الوقت نفسه انخفاض القوة الشرائية لعملة معينة. وفي كثير من الأحيان قد يمتد لسنوات عدة. والسؤال هنا: كيف يؤثر التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية وعالمياً على الأسواق الناشئة؟
مع منتصف أبريل 2021م نشر مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة الأمريكية مؤشر أسعار المستهلك. أو ما يُعرف بـ”مؤشر التضخم”. وعلى وجه التحديد ارتفع إلى 2.6% على أساس سنوي في شهر مارس الذي يسبقه. كما أن هذا الرقم يزيد بنسبة كبيرة عن هدف التضخم للبنك المركزي الأمريكي “الاحتياط الفيدرالي” والبالغ نحو 2%.
في مارس 2020م برز على الساحة الأمريكية جدل اقتصادي -لا يزال مستمراً- بعدما استجوب مشرِّعون في “الكونجرس” رئيس الاحتياط بشأن التضخم. وهو ما يبدو منطقياً لأن حجم ونطاق ومدة الارتفاع المحتمل للتضخم ستكون ذات آثار كبيرة تتجاوز الرفاه الاقتصادي وحتى حدود الدولة.
حالياً تشهد الولايات المتحدة ارتفاعاً متسارعاً في التضخم مسجلة 4.2% في أبريل الماضي. بسبب التأثيرات الأساسية وجذب الطلب. وستكون المرحلة اللاحقة من التأثيرات الكبيرة كافية لتوليد تهديد حقيقي داخلها وخارجها لا سيما في الأسواق الناشئة. ممّا يتطلب معه مراقبة وثيقة ومتكررة لوضع التضخم.
يترافق ذلك مع الخطر الدائم لتقلبات السوق المرتفعة. بالإضافة للصراعات المستمرة على الجبهة السياسية. لأن تزايد احتمالات حدوث مداولات ساخنة في الكونجرس بشأن الرفاه الاقتصادي والاجتماعي قد يجعل من الصعب تمرير الحزم المالية اللاحقة. على الرغم من أهميتها في تحقيق التعافي الدائم للبلاد.
في الحقيقة التضخم لا يصيب الولايات المتحدة فقط بل يغزو دول العالم الكبرى. فترتفع الأسعار بمعدلات متباينة في 38 دولة تمثل نحو 60٪ من الاقتصاد العالمي. ففي أمريكا ارتفع معدل التضخم لـ4.2٪ في أبريل. وزاد المعدل في كندا لـ3.4٪. وارتفع لـ1.6٪ في بريطانيا. و2٪ في ألمانيا و1.2٪ في فرنسا.
على أي حال ستتأثر الأسواق الناشئة بارتفاع التضخم الأمريكي والعالمي. لكن ما هي الأسواق الناشئة؟ هي مجموعة بلدان تتسم بمواصفات الأسواق المتقدمة. لكنها لا تملك متانة الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان. وعادةً ما تملك بنية تحتية مالية متوسطة القوة “البنوك والبورصات”.
من ناحية أخرى تُعرف كذلك الأسواق الناشئة بأنها أسواق الدول منخفضة ومتوسطة النمو. والتي تطور اقتصادها بشكل تدريجي متسارع كي تلحق بركب الدول الكبرى. فيتميز اقتصادها بالنمو السريع والتحول من الآليات التقليدية مثل: الزراعة وتصدير المواد الخام لاقتصاد الصناعات والتكيف مع انفتاح الأسواق.
التضخم في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى سيبرز في ارتفاع أسعار السلع المهمة مثل: النفط وكل مدخلات الإنتاج. مثل النحاس وخام الحديد والخشب ومواد البناء وغيرها. وذلك يزيد من كلفة الإنتاج أيضاً في الدول الناشئة. كما سيترجم لارتفاع في الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية.
بالإضافة إلى أن زيادة الضغوط التضخمية سيصيب الفقراء في الدول الناشئة أكثر من غيرهم. لأنهم يحتفظون بمعظم أموالهم نقداً. ويعتمدون بشكل رئيس على دخلهم من الأجور ومساعدات الرعاية الاجتماعية ومعاشات التقاعد. والتي تعتمد بشكل رئيس على الموازنة العامة واحتياط النقد الأجنبي وتدفق القروض والمساعدات.
في الواقع سيراقب الجميع عن كثب ما سيحدث في الأشهر المقبلة. لأن أحد أبرز المخاوف هو أن توقعات التضخم سواء الخاصة بمؤشر الشركات أو المستهلكين ترتفع بشكل حادّ في الولايات المتحدة. خصوصاً أن ذلك يأتي بعد عقود من التضخم الخافت. ولذلك من غير المتوقع أن تظل الأسعار تحت السيطرة. وهو ما من شأنه تزايُد الضغوط التضخمية.
ربما يقلّل مجلس الاحتياط الفيدرالي من مخاطر ارتفاع التضخم على المدى البعيد. مثلما أكد “المركزي” الأوروبي أن موجة التضخم “مؤقتة”. بسبب أنها تأتي ضمن تعطل النشاط الاقتصادي بسبب جائحة كورونا. كما أن البنوك المركزية للدول الكبرى أعلنت استعدادها للقبول بمعدلات تضخم أعلى من المستهدف “نحو 2%”.
لكن من المؤكد أن الأسواق الأمريكية والعالمية ستشهد حالة من الترقب. كما سيزداد قلق المستثمرين- في الأسهم أو الأصول عالية المخاطر أو السندات- من استمرار ارتفاع التضخم. مما سيدفع البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة والتوقف عن الضخ النقدي بما يفقدهم قيمة العائد على استثماراتهم بعد عام.
زيادة على أنه في السنوات الأخيرة دخل كثير من المستثمرين المتعطشين للربح السوق بظن ديمومة الارتفاع والعائد الكبير واستمرار الربح. حتى مستثمري العائد الثابت الذين غالباً ما تحوي محافظهم تنويعاً من الأصول بين الأسهم والسندات. حيث إن ارتفاع التضخم والفائدة سيجعل العائد أقل قيمة فعلية.
من جهة أخرى فإن الإفراط في المخاطرة باستقرار الأسهم وغيرها من الأصول الخطرة قد يتسبب في تداعيات اقتصادية سلبية. يمكن الشعور بها خارج الولايات المتحدة بالفعل. حيث انتقد مسؤولو المركزي الأوروبي ما وصفوه بـ”التشديد غير المبرر” للأوضاع المالية في منطقة اليورو مع ارتفاع عائدات السندات الأمريكية.
كما أن المخاوف من ارتفاع عائدات السندات امتدت للأسواق الناشئة. فحدث اتساع بطيء في دورة زيادات أسعار الفائدة من البنوك المركزية في هذه الاقتصادات. مما يعني زيادة كلفة الاقتراض على المستثمرين ورواد الأعمال على حد سواء. وهو الأمر الذي يضر بالنمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي لهذه البلدان.
عادةً ما تقدم أصول أسهم الأسواق الناشئة عوائد أعلى نسبياً من نظيراتها في الأسواق المتقدمة بهدف جذب المستثمرين. بالإضافة إلى تعويضهم عن ارتفاع نسبة المخاطر المتصورة الأكبر في الاستثمار في أسهمها. إذن عندما ترتفع عوائد أصول أسهم الأسواق المتقدمة فإن ذلك يضعف بالتأكيد جاذبية الأسواق الناشئة.
وهذا ما دفع المستثمرين لسحب استثماراتهم في الأسهم والسندات. ووضْع نهاية للتدفقات التي دامت أشهر كبداية للانتعاش بعد تفشّي كورونا عالمياً. وقد حدث في بداية مارس 2021م تحول مؤشر الاستثمار الأجنبي لـسلبي في أسهم الأسواق الناشئة. وعلى عكس ذلك ارتفع إجمالي التدفقات اليومية الخارجة لأول مرة منذ أكتوبر 2020م.
كما أن رفع أسعار الفائدة الأمريكية من قبل الاحتياط الفيدرالي والبنوك المركزية العالمية الأخرى والممزوج بانخفاض برامج شراء السندات من شأنه أن يشكل خطراً كبيراً على أصول الأسواق الناشئة. وخلال الفترات المقبلة ستميل المخاطر لمزيد من التدفقات الخارجة من الأسواق الناشئة.
بشكل عام لا تزال المعنويات تجاه مخاطر الأسواق الناشئة جيدة. وينعكس ذلك من خلال استمرار صناديق الأسهم في الأسواق الناشئة في جذب التدفقات. لكن المستثمرين أصبحوا أكثر إدراكاً للأصول التي يجب استهدافها.
في نهاية المطاف ننصح أسواق الاقتصادات الناشئة بأن تستعد جيداً منذ الآن لمواجهة أي تغيرات مفاجئة في السياسات الأمريكية وقرارات “الاحتياط الفيدرالي”. وفي الوقت نفسه الاستعداد لأي قفزات غير متوقعة لمعدلات التضخم. وربما يساعدها في ذلك وضع أسس لخطط مستقبلية باتجاه تدعيم أُطُر سياساتها النقدية والمالية العامة.