لا يكاد الاقتصاد العالمي يخرج من أزمة ما حتى يدخل في أخرى. وكأن الأزمات الاقتصادية باتت سمةً ملازمةً للاقتصاد العالمي وخاصيةً من أهمّ خواصه. فحالياً وعقب بدء أزمة كورونا بالأفول يبدو أن أزمة سلاسل التوريد باتت البديل لها. والسؤال هنا: ما أثر أزمة سلاسل التوريد على الاقتصاد العالمي؟
سلاسل التوريد هي الأدوات والوسائل والقنوات التي تسلكها المواد الأولية والمصنعة ونصف المصنعة من مكان الإنتاج إلى أماكن التخزين أو الاستهلاك. وترتبط معدلات النمو الاقتصادي بشكل مباشر بكفاءة سلاسل التوريد. فالسلاسل المرنة والمدعمة بأدوات تكنولوجية تعد داعماً رئيساً للاقتصاد والعكس صحيح.
تتمثل سلاسل التوريد بأساطيل النقل البحري والموانئ والمخازن العملاقة وأساطيل النقل البري. بالإضافة إلى أنظمة إدارة المخزون وتلقي طلبات النقل وتنظيمها وغيرها من الأدوات. وبالتأكيد فإن أي تعطل في واحدة من هذه النظم من شأنه إضعاف فاعلية هذه السلاسل.
في الواقع تعد سلاسل التوريد الحلقة الأهم في الاقتصاد العالمي. فالاقتصاد العالمي قائم على التبادل التجاري ونقل المواد الأولية والمواد المصنّعة بين دول وقارات العالم. ففي حال تعطل أنظمة النقل هذه فالإنتاج سيتوقف وتتراكم البضائع في الدول المنتجة. مقابل شح كبير ونقص واضح في المواد في الدول المستهلكة.
يقوم الاقتصاد بمفهومه العام على الأسواق والتي تعد المكان الذي يتقابل به الطلب والعرض. ولكن في حال تعطل سلاسل التوريد فإن العالم سينقسم إلى قسمين. الأول دول يزداد العرض بها وتنخفض أسعار السلع ويخسر المنتجون. والثاني يزداد الطلب به وينخفض العرض وترتفع الأسعار. وهذا الأمر من شأنه تقويض الاستقرار الاقتصادي وإدخال العالم في أزمة اقتصادية.
يعاني الاقتصاد العالمي حالياً من بوادر أزمة من المتوقع أن تتفاقم في الأسابيع القليلة القادمة. وذلك بسبب تراجع حاد في كفاءة سلاسل التوريد العالمية. فكل دول العالم تسعى لدعم مؤشراتها الاقتصادية عقب الإغلاق الاقتصادي الذي أعقب أزمة كورونا. إلا أن أزمة سلاسل التوريد الحالية تقوض كل هذه الجهود.
إن الأخطر في الأزمة الحالية أنها تعود لعدة أسباب. وهذا ما يجعل عملية معالجتها أمراً بالغ الصعوبة. فقد لا يكون من الممكن السيطرة في الوقت ذاته على عوامل عدة. ولذلك فإن أقصى ما يمكن عمله حالياً هو التخفيف من حدة هذه الأزمة وليس حلها بالكامل.
من أسباب هذه الأزمة تبعات أزمة كورونا. فحتى الآن وعلى الرغم من بدء تعافي الاقتصاد العالمي من تبعات الإغلاق الاقتصادي. إلا أن العديد من القطاعات لم تعمل بعدُ بطاقتها القصوى ومنها قطاع النقل العالمي. فهذا القطاع لم يعمل حتى الآن بطاقته القصوى.
في الحقيقة إن تعافي الاقتصاد العالمي لا سيما شركات الإنتاج أظهر سرعة كبيرة في التعافي مقابل تعافي بطيء لقطاعات النقل. فقطاع النقل حالياً لم يتمكن من مواكبة التسارع في معدلات الإنتاج. وهذا أدى إلى تراكم الإنتاج في عدة دول مصنّعة وعلى رأسها الصين ودول جنوب شرق آسيا.
ومن الأسباب أيضاً أنه وخلال أزمة كورونا قام غالبية الأفراد بادخار أموالهم. وحالياً وبعد بدء التعافي الاقتصادي اتجهوا لإنفاق هذه الأموال لا سيما على السلع المعمرة كالسيارات والغسالات وغيرها. وهذا الطلب المرتفع والحاد والمفاجئ لا تقدر سلاسل التوريد على تلبيته بالكامل مما عزز هذه الأزمة.
تشكل برامج الدعم الحكومي للعاطلين عن العمل أحد أسباب هذه الأزمة. فالعديد من عمال النقل لا سيما السائقين منهم غير متحفزين للعودة للعمل خاصة أنهم يتلقون مساعدات حكومية. وهنا تعود فكرة أن المساعدات المباشرة للأفراد من شأنها إفساد ثقافة العمل في المجتمع وتهديد الحركة الاقتصادية.
من الأسباب أيضاً أزمة الطاقة العالمية والتي تظهر بشكل جلي في أوروبا. والتي يتم إلقاء اللائمة فيها على روسيا. كما أن قضية الرقاقات الإلكترونية والتي تنتج تايوان وكوريا الجنوبية 75% من حجم الإنتاج العالمي تشكل إحدى أبرز أسباب الأزمة الحالية.
في الواقع يشكل نظام الإنتاج “في الوقت المحدد” “Just In Time” “JIT” والذي ابتكرته تويوتا في سبعينيات القرن الماضي أحد أسباب هذه الأزمة. فهذا النظام يعتمد على تقليل المخزون إلى حدوده الدنيا. وتوفير تكاليف إدارة المخزون وطلب المواد اللازمة في الوقت المناسب. وهذا النظام فعّال للغاية ولكنه بالغ الحساسية لأيّ تراجع في كفاءة سلاسل التوريد.
إن اعتماد غالبية الشركات على نظام “JIT” جعلها بدون مخزون فعلي. وهو ما أدى إلى ارتفاع الطلب بشكل حاد على حاويات النقل البحري. وبالتالي ارتفاع تكاليف الشحن الدولي. ولذلك أصبحت أجور الشحن تعادل أحياناً ثمن البضاعة المشحونة. وهذا ما انعكس ارتفاعاً حاداً في مؤشرات المستهلك في غالبية الدول.
إن الدول المعتمدة على التصدير كالصين وأوروبا والولايات المتحدة تعاني حالياً من كساد إنتاجها. والدول المستوردة تعاني من نقص الإمدادات ولذا فالتجارة العالمية في أسوأ حالاتها. وهذا ما سيؤثر سلباً على كل الدول وعلى الاقتصاد العالمي بالكامل.
تقوم كبرى الدول حالياً بجهود لحل أزمة سلاسل التوريد. ولكن أيّ إجراء لن تظهر نتائجه قبل عدة أسابيع على أفضل تقدير. وهذا يعني مزيداً من الاختناقات في حركة التجارة العالمية. وهذا الأمر سيؤثر سلباً وبدرجة كبرى على الدول التي تعاني أساساً من ضغوط اقتصادية.