شهدت الليرة التركية مؤخراً تدنّياً حاداً جداً لتصل لقِيَم غير مسبوقة. فالدولار الواحد سجل أكثر من 18 ليرة. كما سادت توقعات عدة بأن الليرة مستمرة بالتدهور وذهب البعض للقول بأن الدولار سيتجاوز 20 ليرة. وفي ظل هذه التوقعات تحسنت الليرة بما يزيد عن 25% خلال ساعات قليلة. والسؤال هنا: ما أسباب التحسن المفاجئ والسريع لليرة التركية وما دلالاته؟
تمت الإشارة سابقاً إلى أن نسبة تدني الليرة التركية تفوق الأثر الناتج عن تخفيض سعر الفائدة. بمعنى أن تخفيض سعر الفائدة لا بد أن ينعكس سلباً على الليرة ولكن ليس لهذه القيمة. فالتدني إذاً يعود بجزء منه لتخفيض سعر الفائدة. ويعود أيضاً لأسباب أخرى لا بد من تحديدها.
في الحقيقة من أهم أسباب تدني الليرة بنسبة تفوق تأثير تخفيض سعر الفائدة هو العامل النفسي. فالقلق لدى الأتراك والأجانب المقيمين في تركيا دفعهم لاستبدال الليرة بالذهب وبالدولار وبمعدلات ضخمة. مما أدى لضغط هائل على الليرة. وبالتالي فاق تدهورها المعدل المتوقع والناتج عن تخفيض سعر الفائدة.
كما أن السبب الثاني للمبالغة في تدني الليرة يعود لتصاعد المضاربة عليها. وهنا ينقسم المضاربون لقسمين. الأول الباحثون عن الربح بدون أي أهداف أخرى. والليرة بتذبذبها الحاد تعد فرصة كبيرة لهؤلاء لجني الأرباح. ولكن أرباحهم كانت على حساب الليرة.
من جهة أخرى الجزء الثاني والأهم من المضاربين هم غير الساعين للربح. ولكن لديهم أهداف أخرى بعيدة المدى اقتصادية وسياسية. هذه الفئة تسعى لتدهور الليرة بهدف تأجيج الشارع للضغط على الحكومة بهدف التراجع عن سياسة تخفيض سعر الفائدة. بسبب كونهم متضررين من هذه السياسة. وربما يكون لهم أهداف أخرى تتمثل بتقليل فرص الرئيس أردوغان في الانتخابات القادمة.
في الواقع وعلى ما يبدو فإن الحكومة التركية أدركت هذه الأسباب جيداً. ويظهر هذا الأمر من خلال خطاب أردوغان الأخير. ففي هذا الخطاب تمكّن الرئيس من تعطيل السبب الأول والمتمثل بالضغط النفسي على الأتراك والأجانب. من خلال تلميحات وتصريحات بأن الدولة ستدعم مَن يودع بالليرة وستعوّضه عن أي خسائر. كما ستدعم المنتجين ضد أيّ خسائر ناتجة عن تذبذب سعر الصرف.
كما أن الحكومة التركية -وعلى ما يبدو- قد قامت بإجراءات للحد من تمويل المضاربات الساعية لتحقيق أهداف خفية. ولذلك وكنتيجة مباشرة لهاتين السياستين تم تعطيل الأسباب المؤدية لتدني الليرة وحصرها بتخفيض سعر الفائدة.
في الحقيقة لا يمكن الجزم بمستقبل الليرة القريب. ولكن يمكن الجزم به على المستوى المتوسط والبعيد. فعلى المستوى المتوسط والبعيد ستتحسن الليرة كون مفاعيل تخفيض سعر الفائدة ستبدأ بالظهور. ولأن الآثار السلبية الجانبية والمرافقة لهذه السياسة ستكون قد تلاشت لكونها آثاراً جانبية وليست جوهرية.
أما على المستوى القصير والمتمثل بالأيام والأسابيع القادمة فإن هذا الأمر مرهون بالإجراءات الحكومية. علاوة على ردة فعل كبار المضاربين. فهل سيعمدون لوسائل أخرى للضغط على الليرة؟ وما هي ردة فعل الحكومة ضدهم. وهذا الأمر سيتضح في قادمات الأيام.
في النهاية مِن المستبعَد أن تتحسن الليرة بحيث تعود لقيم مرتفعة مثل 10 ليرات للدولار. فتخفيض سعر الفائدة من شأنه إبقاءها فوق 10 ليرات للدولار على الأقل في المدى المنظور. وفي حال نجحت سياسات الحكومة في الحد من المضاربات فإنها لن تتجاوز 13 ليرة للدولار الواحد.