شَارِك المَقَال

تعد الحرب الروسية الأوكرانية حلقة في سلسلة الصراع الاستراتيجي بين روسيا والغرب. فهذه الحرب ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. فمنذ عدة قرون وحتى الوقت الحالي لم يتوقف هذا الصراع. فبدءاً من الحرب الروسية الفرنسية إبّان حكم نابليون لفرنسا مروراً بعشرات الحروب والصراعات ولاحقاً الحرب الباردة. فكلها حلقات في ذات السلسلة. وحالياً لا تشكل الحرب الروسية الأوكرانية خروجاً عن هذا الصراع. فأوكرانيا حالياً أشبه بوكيل عن الغرب. وهذا ما يفسّر الدعم الواضح الذي يقدمه الغرب لأوكرانيا. ومن غير المتوقع أن تنهي هذه الحرب الصراع الاستراتيجي الروسي الغربي. والسؤال هنا: ما طبيعة الصراع الاستراتيجي بين روسيا والغرب؟

 

ما أوراق قوة كل من روسيا والغرب؟

تختلف الأسلحة المستخدمة في كل حرب باختلاف طبيعتها. وهنا وفي الحرب الروسية الأوكرانية يمكن القول بأن الأسلحة المستخدمة من الطرفين يمكن وصفها بالسلاح التكتيكي. بينما السلاح الاستراتيجي يتمثل في أوراق القوة المستخدمة للضغط على الطرف الآخر. فأثر السلاح التقليدي قد يزول في فترة قصيرة. بينما أوراق الضغط المستخدَمة قد تترك آثاراً لا تزول في المدى المنظور.

 

فيما يتعلق بأوراق الضغط الروسية فهي تتمثل بحوامل الطاقة (النفط والغاز). وتحكمها بالأمن الغذائي العالمي. وبجزء من سلاسل التوريد العالمية. فهذه الأوراق أرهقت الاقتصاد العالمي عموماً والاقتصاد الأوروبي على وجه الخصوص. ومن الملاحظ هنا أن روسيا تسعى لإدارة استخدام هذه الأوراق. فهي حتى الآن لم تُلقِ بأوراقها دفعة واحدة. فالصراع قد يطول ولا بد من إدارة استخدام حزم الضغط. فهي لم تحرم أوروبا من كامل وارداتها. بل فقط تلوّح وتهدد بشتاء قارس دون غاز للتدفئة. أو بتكلفة باهظة تفاقم أزمة غلاء المعيشة التي تعانيها أوروبا حالياً.

في المقابل يمتلك الغرب بقيادة الولايات المتحدة جملة أوراق ضغط. تتمثل بالعقوبات الاقتصادية التي فرضها على روسيا منذ بدء الحرب وسلاح الدولار. والتي بالفعل نجحت في إلحاق ضرر واضح بالاقتصاد الروسي. ويراهن الغرب على أن آثار العقوبات الاقتصادية على روسيا تستهدفها على المدى المتوسط والطويل. فالرهان الغربي يعتمد على أن الاقتصاد الروسي قد يعاني من تبعات حادة قد تستمر لعقود طويلة.

 

كيف تتم إدارة أوراق القوة والضغط؟

يراهن الغرب على قدرته على إفراغ أوراق الضغط الروسية من قوتها. من خلال العمل على الاستغناء عن الغاز الروسي. وذلك ضمن خطة طويلة تمتد على مدار عدة سنوات. وفي ذات الوقت تسعى روسيا لتجنب آثار العقوبات الغربية من خلال تقليل اعتمادها على الدولار. ففرضت بيع الغاز بالروبل. كما تسعى لإنشاء تكتلات اقتصادية تكون بمثابة بديل جزئي عن التكتل الاقتصادي الغربي.

تراهن روسيا على رفع مستوى الضغط الاقتصادي على الدول الأوروبية. على أمل أن يسبب هذا الضغط انتفاض الشعوب الغربية ضد حكوماتها. وهو أمر بدأت تظهر ملامحه في مظاهرات غلاء المعيشة بالتشيك وإيطاليا وحالات الإضراب والاحتجاج في بريطانيا. كما تسعى للتأثير على شعبية الحكومات الأوروبية ومن خلال تعاونها مع المعارضة وجماعات الضغط.

 

عقبات الرهان الروسي

على الرغم من استناد الرهان الروسي على مقومات واضحة وفعالة. إلا أن هناك عقبات تحول دون تحققه. ومنها عجز موسكو نفسها عن الانسحاب من السوق الأوروبي بشكل كامل. كما أن البديل الصيني يحتاج على أقل تقدير لـ10 سنوات حتى يغنيهم بشكل كامل عن أوروبا. علاوة على ذلك فعدد من الدول الأوروبية بدأت بالاستثمار بموارد بديلة للطاقة تجعلهم قادرين على الاستغناء عن الغاز الروسي. مما سينعكس على الاقتصاد الروسي لعقود من الزمن. ويمكن أن يكون بداية لتفكك الاتحاد الروسي بشكل مشابه لتفكك الاتحاد السوفييتي بعد حرب أفغانستان والانهيار الاقتصادي الذي حدث حينها.

في الحقيقة إن مقامرة بوتين كبيرة. لكن المكاسب تستحق. فإما خسارة الغرب وتغيير قواعد اللعبة العالمية بأكملها. وعودة روسيا كقطب ثانٍ للعالم أقوى من ذي قبل. أو الخسارة وعودة الاقتصاد الروسي للخلف عشرات السنوات. مع حدوث انكماش وتباطؤ قوي للاقتصاد الروسي.

في الواقع إن المستقبل غامض. والعناد يسيطر على الجميع. ولا توجد مؤشرات واضحة على أي مفاوضات جدّية. ما يجعل النتيجة غير قابلة للتوقع. فهل تستطيع أوروبا الصمود. وتحمل “ألم” فقدان الغاز على الأقل الشتاء المقبل. وتحرق ورقة روسيا الأهم؟. أم تتراجع خطوة للوراء وتقبل بالهيمنة الروسية مُقابل الطاقة؟ والإجابة عن هذه الأسئلة مرهونة بكيفية تطور الصراع. ولعل الأشهر القليلة القادمة قد تحدد مستقبل الحرب ومن ورائها مستقبل العالم أجمع.

شَارِك المَقَال