تشهد الليرة التركية منذ عدة سنوات تذبذبات حادة في قيمتها ارتفاعاً وانخفاضاً. وإن كان المسار العام لها يتجه نحو الانحدار السريع. وهو ما دفع للعديد من التأويلات والتحليلات فيما يتعلق بأسباب هذا الانحدار المتسارع. إضافة لمحاولة توقع واستنتاج مستقبلها. فهل هي متجهة لمزيد من الانحدار أو الاستقرار أو التحسن. والسؤال هنا: ما واقع ومستقبل الليرة التركية؟
في الحقيقة شهدت الليرة التركية في تاريخها العديد من الهزات. غالبية هذه الهزات كانت بأسباب سياسية. بدءاً من الضغوط السياسية على تركيا عقب أزمة قبرص في السبعينيات. وبعد هذا التاريخ استمرت الليرة بالتدهور والتضخم بالارتفاع حتى اضطرت الحكومة التركية لإصدار أوراق مالية من فئة الملايين.
يعد العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية لتركيا العصر الذهبي لليرة التركية. ففي عام 2004م تم إلغاء ستة أصفار من العملة. وحينها كان الدولار الواحد يساوي 1.344 ليرة تركية. وكان هذا الأمر مدعوماً بالازدهار الاقتصادي الذي شهدته تركيا في شتى المجالات. والذي تمثل بزيادة الصادرات واستقبال الاستثمارات وتضاعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
خلال أكثر من عقد من الزمن حافظت الليرة على استقرار نسبي. وإن كان هناك بعد التراجع في القيمة إلا أنه كان تراجعاً بسيطاً. ولكن بعد عام 2016م بدأت الليرة بالتدهور لا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. فحينها انخفضت الليرة التركية ليصبح الدولار الواحد يساوي أكثر من ثلاث ليرات تركية.
في الواقع أدَّت عدة أسباب متداخلة ومتشابكة لأزمة الليرة التركية. بعض هذه الأسباب سياسي والآخر اقتصادي. وبعض هذه الأسباب ما تزال مفاعيله مستمرة حتى الآن. وهو ما يبقي الليرة في دائرة الخطر.
للوقوف على الأسباب الاقتصادية الحقيقية لأزمة الليرة التركية لا بد من العودة لجذور هذه الأسباب. في الواقع تعود جذور الأسباب الاقتصادية إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008م. ففي ظل هذه الأزمة قامت العديد من الدول بفرض الفائدة الصفرية لتحفيز اقتصادها.
ولفهم هذه الجزئية لا بد من توضيح معنى الفائدة الصفرية. فهي قرار من البنك المركزي يَفرض على جميع المؤسسات المالية في الدولة منح قروض للأفراد والشركات بفائدة منخفضة جداً تقترب من الصفر. فهذه الفائدة المتدنية تحفّز الجميع على الاقتراض واستثمار هذه القروض. وبالتالي يتحفز الاقتصاد. هذا مفهومها ببساطة مفرطة.
ولكن كيف أثرت الفائدة الصفرية في بلدان أخرى على الليرة التركية؟. في ذلك الوقت كانت الفائدة التركية أعلى من معدل الفائدة في العديد من الدول الغربية. فالعديد من مواطني وشركات تلك الدول اقترضت من البنوك المحلية وقامت بنقلها إلى تركيا للاستفادة من معدل الفائدة المرتفع بالنسبة للفائدة في تلك الدول.
في ظل هذا الواقع تشجعت العديد من الشركات التركية على الاقتراض الخارجي. وفي ظل هذا التدفق الكبير لرؤوس الأموال إلى تركيا. والتي كانت جميعها بالدولار الأمريكي. شهدت الاستثمارات ذروتها وتضاعف الإنتاج والتصدير وانتعش الاقتصاد التركي. ولكن هذه الأموال المقترَضة لن تبقى للأبد في تركيا.
بعد ارتفاع أسعار الفائدة في الدول التي فرضت سابقاً الفائدة الصفرية. قام الأفراد بإعادة أموالهم من تركيا. مما شكل نقصاً حاداً ومفاجئاً في أرصدة الدولار في تركيا. مما سبب ضغطاً هائلاً ومفاجئاً على الليرة التركية. ففي يوم واحد من عام 2018م خسرت الليرة التركية 18% من قيمتها.
وفي عام 2018 أيضاً بدأت أزمة الديون الخارجية التركية بالظهور. فالعديد من الشركات التركية تشجعت على الاقتراض الخارجي بسبب الفائدة الصفرية في الدول الغربية. ففي هذا العام بلغت ديون شركات القطاع الخاص التركي وحده 250 مليار دولار وبعض هذه الديون مستحقة السداد في ذات العام.
بصفة عامة تشكل الأسباب السياسية أحد عوامل الضغط المهمة على الليرة التركية. ففي العقد السابق دخلت الدولة التركية في خلاف سياسي مع العديد من الدول العربية والغربية إضافة للولايات المتحدة الأمريكية. وفي ظل هذه الخلافات قامت العديد من الدول بشنّ حرب اقتصادية على تركيا.
فرضت الولايات المتحدة عدة عقوبات اقتصادية على تركيا بهدف زعزعة ثقة المستثمرين بالاقتصاد التركي ودفعهم للخروج من تركيا. وبعضهم بالفعل غادر تركيا. وهذا ما سبّب نقصاً إضافياً في أرصدة الدولار. وبالتالي ازداد الضغط على الليرة واستمرت في التدهور.
كما أن وقوف تركيا إلى جانب قطر في الأزمة الخليجية سبَّب عداء بعض دول الخليج لتركيا. وظهر هذه العداء من خلال تمويل عمليات المضاربة على الليرة التركية. وفي عام 2018م قام العديد من المستثمرين بسحب أرصدتهم من تركيا بغض النظر عن خسائرهم المتوقعة. وذلك للضغط على الليرة. وحينها قال المسؤولون الأتراك بأن الليرة التركية تتعرض لهجوم خارجي.
لا تقتصر الأسباب السياسية على الخارج. فللداخل التركي حصة من هذه الأسباب. ففي انتخابات عام 2018م سعى العديد لإسقاط الرئيس أردوغان. لا سيما أنه تحدى بعض اللوبيات التي ترى في سعر الفائدة مصلحة لها. وهو ما قادهم لمحاربة الليرة التركية بهدف إسقاط الرئيس أردوغان في الانتخابات آنذاك.
من الأسباب السياسية التصنيف الائتماني لتركيا. فعلى الرغم من أن هذا التصنيف يُفترض أن يكون تصنيفاً اقتصادياً فنياً. إلا أن الدولة التركية ترى أن العديد من التصنيفات الدولية مسيَّسة وتهدف للضغط على الاقتصاد. ومنها على سبيل المثال: قرار مجموعة العمل الدولية بوضع تركيا على اللائحة الرمادية فيما يتعلق بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
هذه التصنيفات تفرض قيوداً على تحويل الأموال من وإلى تركيا. وهو ما يَحُد من حركة الاستثمارات ويقلل العوائد من الدولار. وبالتالي يزداد الضغط على الليرة التركية ويدفعها للمزيد من التدهور.
في الواقع شهد البنك المركزي في السنوات الأخيرة العديد من الإقالات والتغييرات. وهذا الأمر يعد مؤشراً سلبيّاً على ثبات السياسة النقدية في البلاد. ويقوّض ثقة المستثمرين بالاقتصاد. فثبات السياسة النقدية يُعد مطلباً رئيساً للاستثمارات الخارجية وحتى الداخلية.
لفهم أسباب الإقالات المتكررة في البنك المركزي التركي لا بد من معرفة أنه كان عند تأسيسه في الربع الأول من القرن العشرين شركة تجارية. تبلغ حصة الدولة منها 15% فقط. وهذا الأمر غير سليم اقتصادياً. فالبنك المركزي قضية سيادية. ويفترض أن يتناغم أداؤه مع توجهات الدولة لا مع توجهات فئات اقتصادية محددة.
لاحقاً ارتفعت حصة الدولة في البنك المركزي بشكل متدرج لتصل حالياً إلى 58%. فالشريك في هذا البنك القطاع الخاص والذي يسعى للربح بغض النظر عن الواقع الاقتصادي العام. وهذا ما يفسر إصرار البعض على المحافظة على سعر فائدة مرتفعة. وهذا يمثل السبب وراء الإقالات المتكررة. إلا أن هذه الإقالات وتذبذب سعر الفائدة بين ارتفاع وانخفاض يؤثّر سلباً على الليرة.
من الملاحظ أنه عقب كل خفض لسعر الفائدة تتدهور الليرة التركية. وهذا الأمر يعود للضغوط التي يمارسها المتضررون من هذا الخفض على الليرة. إضافة لأسباب اقتصادية فنية. وهنا لا بد من فهم العلاقة ببين الليرة وسعر الفائدة.
يُعدّ الرئيس أردوغان من أنصار سعر الفائدة المنخفضة. فسعر الفائدة المنخفض من المؤكد أنه سيضر بالليرة وسيرفع نسبة التضخم. ولكن هذا الأثر السلبي محصور بالمدى القصير. أما على المدى المتوسط فهو سيحفّز الاقتصاد. فخفض سعر الفائدة وفقاً لوجهة نظر الرئاسة التركية من شأنه علاج جذور المشكلة وليس أعراضها.
بالإمكان ومن خلال رفع سعر الفائدة تحسين قيمة الليرة التركية خلال أشهر قليلة وإعادتها لمستويات متوازنة. إلا أن هذه الإجراء وخلال سنوات قليلة من شأنه إرهاق الاقتصاد التركي وسيسبب تراجع الليرة على المدى الطويل وعندها لن يكون بالإمكان إنقاذ الليرة.
سعر الفائدة المنخفض يشجّع الأفراد والشركات على الاقتراض من البنوك. وبالتالي تحويل هذه الأموال إما إلى الإنفاق أو إلى الاستثمار. ففي حالة الإنفاق سيزداد الطلب على السلع وبالتالي يتحفز الإنتاج. أما إذا تحول للاستثمار فهو سيولد فرص عمل ويدعم الصادرات ويزيد من أرصدة الدولار وبالتالي تتحسن الليرة.
وفقاً لقرار المركزي الأخير بخفض سعر الفائدة فإن الرئيس أردوغان قرَّر المواجهة مع أنصار رفع سعر الفائدة. وهذا الأمر من شأنه زيادة الضغوط على الليرة في الفترة القادمة. لا سيما أن العديد قد يقومون بحسن نية أو بسوء نية بالاقتراض وتحويل الليرة لدولار. وهو ما يعني مزيداً من الضغط على الليرة.
في حال استطاع الرئيس أردوغان فرض سعر فائدة منخفض لفترة طويلة نسبياً فمن المتوقع أن تتحسن الليرة على المستوى المتوسط. ولكن هذا الأمر لن تُرى نتائجه قبل عام على الأقل. وفي هذه المرحلة تسعى الدولة لدعم الليرة بانتظار ظهور نتائج خفض سعر الفائدة. لكن لا يمكن التكهن بردود فعل المتضررين من هذا الخفض.
إن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التركية قد يدفع البعض للضغط على الحاضنة الشعبية للرئيس أردوغان من خلال الواقع الاقتصادي. وهو ما يحفّز البعض للمضاربة على الليرة. فالعامل الاقتصادي يُعد حاسماً لدى الناخب التركي في اختيار رئيس الدولة.
إن المستقبل القريب لليرة التركية مرهون بالضغوط السياسية الداخلية والخارجية على الليرة التركية. ومرهون بالإجراءات الحكومية التركية التي تسعى لدعم الليرة بانتظار بدء ظهور مفاعيل خفض سعر الفائدة.