شَارِك المَقَال

 

صَدَر العَدَد الأَخير من مَجَلّة التَّمْويل والتَّنْمية الصّادِرة عن صُنْدُوق النَّقْد الدَّوْلي لِشَهْر ديسِمْبِر من العام الحالي، وهي بعُنْوان عالَم جديد شُجاع، مُستقبَل الوظائِف والفُرَص، وتَناوَل هذا العَدَد في إطاره العامّ خيارات السّياسات الحاليّة ودَوْرها مستقبَلا في تَشْكيل مَسار الاقْتِصاد على المَدَى الطَّويل.

 

تَناوَل هذا العَدَد دِراسة التَّأْثير الاقْتِصادي الَّذي فَرَضَتْه جائِحة كُورُونا على الاقْتِصاد العالَمي والمَحَلّي، وعلى واقِع الوَظائِف والمِهَن، وفصَّل الأَسْباب الحَقيقيّة لتَردِّي واقِع المِهَن والوَظائِف، وبِناءًا على هذا الواقِع قَدَّم جُمْلة اقْتِراحات لِتَحْسين مُستقبَل الوَظائِف وسُوق العَمَل.

 

أَوْضَح التَّقْرير أنّ جائِحة كُورُونا غَيَّرَت طَبيعة العَمَل والوَظائِف وماهيّة سُوق العَمَل بدَرَجة كَبيرة تَفُوق مِقْدار التَّغَيُّر الَّذي حَدَث خِلال عُقُود طَويلة، فَتَغَيَّرَت مُتَطَلَّبات سُوق العَمَل ونَمَت وظائِف مُحَدَّدة واضْمَحَلَّت أُخْرَى، وترافَق كُل هذا بِتَغْييرات اجْتِماعيّة عَميقة أَثَّرَت على بِنْية المُجْتَمَعات في الدُّوَل المُتَقَدِّمة والنّامية على حَدّ سَواء.

 

فيما يَخُص آثار جائِحة كُورُونا على سُوق العَمَل تَناوَل التَّقْرير الأَعْمال الَّتي شَهِدت التَّضرُّر الأكبر، فأَصْحاب الياقات الزَّرْقاء كانُوا الأَكْثَر تضرُّرا، مُقابِل قُدْرة أَصْحاب الياقات البَيْضاء على المُناوَرة من خِلال تَفْعيل العَمَل عن بُعْد، وتُعْتبَر النِّساء وأَصْحاب المَهارات المُنْخَفِضة الأَكْثَر تَأَثُّرًا بالإِغْلاق الاقْتِصاديّ العالَميّ.

 

كَشَفَت أَزْمة كُورُونا وَفْقًا للتَّقْرير مِقْدار فَجْوة المَهارات الكَبيرة المَوْجُودة في سُوق العَمَل، كما ساعَدَت في تَنامي هذه الفَجْوة، بحيث باتَت فَجْوة المَهارات عَقَبة أَمام تَنْشيط السُّوق، وهذا يُظْهِر بشَكْل جَليّ مَدَى القُصُور في بَرامِج التَّدْريب والتَّأْهيل في المُنَظَّمات.

 

إنّ الفَجْوة الحادّة في المَهارات انْعَكَست فَجْوة في الأُجُور، كما انْعَكَسَت تَبايُنًا جَذْريًّا في القيمة الاجْتِماعيّة للوَظائِف، ونَشِط قِطاع العَمَل غير المُنَظَّم حَتَّى في الدُّوَل المُتقدِّمة، الأَمْر الَّذي زاد من حِدّة الفَوارِق الطَّبَقيّة والاجْتِماعيّة بين المُجْتَمَعات المَحَلّيّة كَما زاد من حِدّة الفَقْر والفَقْر المُدْقِع.

 

إنّ هذه الظَّواهِر السَّلْبيّة الَّتي ظَهَرَت في سُوق العَمَل إِبّان أَزْمة كُورُونا قِسْم منها سَبَّبَتْه أَزْمة الإِغْلاق الاقْتِصاديّ، وآخَر لم تُسَبِّبْه ولكنَّها كَشَفَت النِّقاب عنه، فَسُوق العَمَل وَفْق التَّقْرير لم يَكُن في الحال الأَمْثَل قَبْل الجائِحة، لكِن عُيُوبه كانت مُسْتَتِرة، وأتَتْ أَزْمة الإِغْلاق الاقْتِصاديّ لتُظْهِر هذه العُيُوب وتُخْرِجها للعَلَن.

 

أَوْضَح التَّقْرير أَنَّه في أَعْقاب الإِغْلاق الاقْتِصاديّ بَرَز مِقْدار القُصُور الكبير في آليّات سُوق العَمَل في الوُصُول للعامِلين خارِج الوَظائِف المُنْتَظِمة حَتَّى في الدُّوَل المُتقدِّمة، كما أنّ التَّشْريعات وحُزَم التَّحْفيز الماليّة والتَّشْريعيّة لم تَنْجَح بشَكْل تامّ في تَحْفيز السُّوق، فالدَّعْم فَشَل في الوُصُول للفِئات المُستهدَفة نَتيجة الخَلَل الهَيْكليّ في آليّات سُوق العَمَل.

 

قَدَّم التَّقْرير جُمْلة من الاقْتِراحات لِتَطْوير سُوق العَمَل وتَحْفيز الوَظائِف، والحَلّ الرَّئيس وفْقًا لِلتَّقْرير يَتَمَثَّل في تَشْجيع الوَظائِف الأكثر إِنْتاجيّة مُقابِل الاسْتِغْناء عن تِلْك المُنْخَفِضة الإِنْتاجيّة، فالحَل يَكْمُن في تَعْزيز واقِع جَوْدة العَمَل، وقَدَّم التَّقْرير عَدَدًا من السّياسات المُقْتَرَحة والواجِب اتِّباعها لتَحْسين واقِع جَوْدة العَمَل.

 

من الاقْتِراحات الَّتي قَدَّمَها التَّقْرير دَعْم الاقْتِصاد النَّشِط بِحَيْث تَحُلّ الوَظائِف الجَيِّدة مَحَلّ تلك الرَّديئة، فالرَّديئة أَوَّل ما يُسْتَغْنَى عنها في الرُّكُود وآخِر ما يُسْتعان بها في الانْتِعاش، كما اقْتَرَح دَعْم مُواكَبة الوَظائِف للتَّطَوُّر التِّكْنُولُوجي، وذلك بهَدَف تَشْجيع الوَظائِف الأَكْثَر إِنْتاجيّة لِتحُلّ مَحَلّ الأقلّ إِنْتاجيّة، فتَزْداد الأُجُور ويَزْداد الأَمان الوَظيفيّ.

إنّ الانْتِقال من الوَظائِف الرَّديئة إلى الجَيِّدة يَحْتاج لتَكْلِفة كبيرة اقْتِصاديّة واجْتِماعيّة، وللحَدّ من هذه التَّكْلِفة اقْتَرَح التَّقْرير زيادة الإِنْفاق على التَّدْريب والاهْتِمام بِالتَّأْهيل وإِعادة التَّأْهيل الدَّوْريّة، كما اقْتَرَح تَعْديل التَّشْريعات الضَّريبيّة بِحَيْث يَتِمّ تَشْجيع الوَظائِف الأَعْلَى جَوْدة ضَريبيًّا والضَّغْط على الأَقَلّ جَوْدة، واقْتَرَح تَشْجيع الوَظائِف ذات القيمة المُضافة المُرْتَفِعة.

 

إنّ التَّوْصيف الَّذي قَدَّمَه التَّقْرير لمَشاكِل سُوق العَمَل والاقْتِراحات الَّتي قَدَّمَها لا يَجُوز أَن تُصَوُّر على أَنَّها اقْتِراحات للخُرُوج من التَّداعيات الاقْتِصاديّة لِأَزْمة كُورُونا فقط، بَل هي أَهْداف طَويلة الأَجَل ومن شَأْنِها التَّأْثير الإيجابيّ في آليّات سُوق العَمَل على المَدَى المُتَوَسِّط والطَّويل، فَسُوق العَمَل بِحاجة لتَحْفيز وتَطْوير بِغضّ النَّظَر عن جائِحة كُورُونا وآثارها الاقْتِصاديّة.

 

 

شَارِك المَقَال