مشاركة

قضية العملة الوطنية في سوريا هي قضية متعدّدة الأبعاد، تحمل أبعادًا سيادية واقتصادية. بعد رَفْع العقوبات، تتهيَّأ سوريا لإعادة الإعمار واستقطاب الاستثمارات، لكن لا يمكن الحديث عن هذه المشاريع في ظل وجود عدة عملات في الدولة: الليرة السورية، الليرة التركية، والدولار الأمريكي. هذا الوضع لا يدعم الاستقرار النقدي، ويُعيق التحكُّم بالسوق المحلي.

 

الدول تَفرض سيادتها وسيطرتها الاقتصادية على الجغرافيا من خلال العُمْلة الوطنية، لذلك أصبح من الضروري توحيد العملة الوطنية في كل المحافظات، وجعل الليرة السورية العُمْلة الحصرية والرسمية، كخطوة أولى ضمن سلسلة إجراءات متوقعة لضبط السوق النقدي وتحقيق استقرار اقتصادي متكامل.

 

اعتمدت محافظة إدلب رسميًّا الليرة السورية كعُمْلة مُلزِمَة للتعاملات المالية في جميع المؤسسات والشركات العامة والخاصة، في خطوةٍ تهدف إلى توحيد التعاملات النقدية، وتقليل الاعتماد على الليرة التركية، التي كانت منتشرة بشكلٍ واسع في الأسواق والمعاملات اليومية.

 

القرار يعكس الالتزام بالسيادة النقدية، ويضع الأساس لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في المحافظة، ويأتي في وقتٍ يحتاج فيه السوق المحلي إلى تنظيم وتوحيد العُملة لضمان فعالية أيّ خطط إعادة إعمار واستقطاب استثمارات مستقبلية.

 

من الناحية القانونية، يُمثِّل القرار سحبًا جزئيًّا للتداول الرسمي بالليرة التركية؛ إذ يقتصر الالتزام على المؤسسات الرسمية والخاصة بما يشمل دفع الأجور والفواتير والمعاملات التجارية. بينما قد يستمر استخدام الليرة التركية في السوق غير الرسمي بين الأفراد، خصوصًا في قطاعات التجارة المرتبطة بالاستيراد أو شراء السلع التركية. بالتالي، القرار لا يمنع الليرة التركية بشكلٍ كامل، لكنه يجعل الليرة السورية المعيار الرسمي المعتمد في المؤسسات، ويُحفِّز الانتقال التدريجي للأفراد نحو التعامل بالعملة المحلية.

 

على مستوى المؤسسات، لن يكون للقرار أيّ أثَر فِعْلي على سير المعاملات؛ إذ ستلتزم تلقائيًّا بالليرة السورية. أما على مستوى الأفراد، فقد يترافق ببعض الفوضى البسيطة مؤقتًا، نظرًا لأن جزءًا كبيرًا من المُدَّخرات المتداولة في السوق بالليرة التركية. لكنّ الواقع العملي سيدفع المواطنين طواعية لاستبدال الليرة التركية بالسورية؛ حيث لم تَعُد المؤسسات الرسمية تقبل أيّ تعاملات إلا بالليرة المحلية.

 

من الناحية التضخمية، سيكون الأثر منخفضًا، فيما من أهم النتائج الاقتصادية لهذا القرار تعزيز سرعة اندماج محافظة إدلب مع باقي المحافظات؛ إذ يُعدّ توحيد العملة عاملًا أساسيًّا في تكوين كتلة اقتصادية متكاملة على مستوى البلاد.

 

تحمل تجربة إدلب بُعدًا رمزيًّا مهمًّا؛ إذ تعكس رسالة واضحة للسوق المحلي بأن الحكومة تسعى لتعزيز سيادتها النقدية وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية، خصوصًا الليرة التركية، في التعاملات الرسمية. هذا البُعْد الرمزي يمكن أن يزيد ثقة المستثمرين المحليين على المدى المتوسط ويشجّع على استخدام الليرة السورية في المعاملات الكبيرة، ما يُقلِّل تدريجيًّا من الاعتماد على العملة الأجنبية ويُعزّز استقرار الأسواق الرسمية.

 

نجاح هذه الخطوة يعتمد على قدرة المؤسسات على التنفيذ العملي للقرار. تطبيق التعامل بالليرة السورية يتطلب تنسيقًا مع البنوك لضمان توفير السيولة، وضبط نظام الفوترة والتحويلات المالية بما يتوافق مع القرار، إضافةً إلى التوعية المستمرة للتجار والمواطنين حول الالتزام بالعملة المحلية. أيّ قصور في هذه الجوانب قد يؤدي إلى استمرار التداول بالليرة التركية في السوق غير الرسمي أو ظهور فجوات سعرية تؤثر على ثقة المواطنين بالقرار.

 

التزام المؤسسات العامة والخاصة بالليرة السورية يُشكِّل نقطة بداية لتقليص الاعتماد على الليرة التركية تدريجيًّا، ودعم العملة المحلية على المدى المتوسط، بما يُعزّز استقرار التعاملات الرسمية داخل المحافظة. ويبقى العامل الحاسم هو قدرة المؤسسات على التنفيذ الفعلي واستجابة المواطنين والتجار للتحوُّل التدريجي نحو التعامل بالليرة السورية في الحياة اليومية والمعاملات التجارية.

 

في النهاية، اعتماد إدلب لليرة السورية خطوة إستراتيجية لتعزيز السيادة النقدية وتوحيد السوق المحلي. القرار يُمهِّد الطريق لتحوُّل تدريجي نحو استقرار نقدي واندماج اقتصادي أعمق مع باقي المحافظات. التجربة تُقدِّم نموذجًا عمليًّا لكيفية استخدام السياسة النقدية لدعم الاستقرار الاقتصادي وبناء الثقة بالمؤسسات.

 

 

 

مشاركة