تمثل الأزمة السريلانكية نموذجاً لما يمكن أن يصل له الحال بالدول النامية بسبب سوء السياسات الاقتصادية. فحتى وقت قريب كانت سريلانكا من الدول ذات الدخل الفردي المتوسط ومن الدول ذات معدلات التنمية المرتفعة. إلا أنها عانت منذ عدة سنوات من أزمة اقتصادية حادة. انتهت بالعجز عن سداد الديون وحالة اقتصادية أقرب للإفلاس وتدهور حاد في مستوى المعيشة والخدمات العامة. ولذلك فإن تحديد الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة يعد أمراً مهماً لناحية فهم جوهر الأزمات الاقتصادية. إضافة لقدرة الدول الأخرى على تجنب هذا المصير.
تعود أزمة سيرلانكا لعدة أسباب. بعضها بدأ من أكثر من عقد. أولى هذه الأسباب تراجع الإيرادات الحكومية. فعدة قرارات خاطئة أدت لتقليص الإيرادات الحكومية بشكل حاد. أولى هذه القرارات كان تخفيض الضرائب مما أدى لحرمان الخزينة العامة من أكثر من 1,4 مليار دولار سنوياً. إضافة لحظر استيراد الأسمدة الكيماوية مما أدى لانكماش إيرادات القطاع الزراعي بنسبة 30%. إضافة لتراجع حاد في الصادرات نتيجة التوجه نحو إشباع السوق المحلي. وهو ما سبّب ارتفاعاً حاداً في عجز الميزان التجاري. وتم تغطية العجز عن طريق احتياطي العملات الأجنبية.
السبب الثاني للأزمة المبالغة في الاعتماد على الديون. فالدين العام بلغ في نهاية عام 2021م 92 مليار دولار. وهو ما يشكل 102% من الناتج المحلي الإجمالي. 51 مليار دولار منها ديون خارجية. وغالبية هذه الديون كانت بفوائد مرتفعة. مما أدى لتآكل الإيرادات الحكومية لخدمة فوائد الديون والتوقف عن سداد أصل الدين. ومما عزز من المشكلة أن غالبية هذه الديون تم إنفاقها على الاستهلاك الجاري مع إغفال تمويل القطاعات الإنتاجية.
السبب الثالث تراجع التصنيف الائتماني للبلاد عقب تراجع الإيرادات. مما أدى لزيادة تكلفة الاقتراض الخارجي. وأتت أزمة كورونا لتزيد من حدة هذه الأسباب. خاصةً أنها أدت لتوقف شبه تام لإيرادات السياحة التي تعد مصدراً رئيساً لإيرادات البلاد. السبب الرابع كان استخدام الاحتياطات لخدمة الدين العام. مما أدى لتآكل هذه الاحتياطات التي انخفضت من 7,6 مليار دولار عام 2019م إلى 1,93 مليار عام 2020م ولينتهي مؤخراً بـ 50 مليون دولار فقط.
تعد الحرب الروسية الأوكرانية من أسباب الضغط المالي على الحكومة السريلانكية. فعلى الرغم من أن أسباب الأزمة تعود لما قبل الحرب. إلا أن الحرب زادت من الضغوط المالية على البلاد نتيجة ارتفاع الأسعار والتضخم. مما فاقم من متاعب البلاد الاقتصادية وعزز من سرعة الانهيار.
سعت الولايات المتحدة خلال فترة تصاعد الأزمة لتقديم مساعدات بملايين الدولارات لسريلانكا. من خلال تقديم تمويل بقيمة 120 مليون دولار للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. ومساهمة بقيمة 27 مليون دولار في صناعة الألبان ومساعدات إنسانية بقيمة 5,75 مليون دولار لدعم المتضررين من الأزمة الحالية. و6 ملايين دولار أخرى في شكل مِنَح. وهذا الدعم الأمريكي يمكن تفسيره بسعي لولايات المتحدة لقطع الطريق على الصين التي قد تقدم مساعدات. فالولايات المتحدة لا ترغب بزيادة النفوذ الاقتصادي للصين في سيريلانكا. كون النفوذ الاقتصادي يعد مدخلاً للنفوذ السياسي.
تعد صادرات الشاي والمنسوجات أهم صادرات البلاد. حيث يمثل القطاع الأول 17% من الصادرات. ويمثل الثاني أكثر من 50%. ولكن مع الأزمة الحالية بات من الصعب على كولومبو تلبية طلبات التصدير ليبحث المشترون عن البديل الهندي. فالهند من أبرز المستفيدين من الأزمة. أما فيما يتعلق بالخسارة فالصين من أبرز الخاسرين فهي الداعم الأبرز للحكومة السيريلانكية. التي وقعت صفقة بقيمة 37 مليون دولار لشراء طائرات Jian-7 والمدافع المضادة للطائرات ورادارات المراقبة الجوية JY-11 3D الصينية. كما تعد الصين أكبر مانح أجنبي لسريلانكا. حيث تبرعت بكين في وقت سابق بنحو مليار دولار. مقارنة ببضعة ملايين قبل الحرب الأهلية في البلاد.
الخسائر المتوقعة للصين تتمثل في إيقاف بناء ميناء هامبانتوتا جنوب سريلانكا بقيمة بمليار دولار والذي يمنح الصين موطئ قدم بالمنطقة. ويجعل بكين تتحكم في الممرات المهمة لحركة التجارة والنفط بين المحيطين الهندي والهادئ. كما يعد الميناء محطة تزويد بالوقود ورسو إضافية لقوات الصين البحرية.
في النهاية تعد الأزمة الاقتصادية في سريلانكا من النماذج الواضحة على أن القرارات الاقتصادية الخاطئة وإن لم تترك أثراً واضحاً آنياً. إلا أنها قد تتسبب بأزمة حقيقية وعميقة مستقبلاً. فالقرارات الاقتصادية لا تُقاس فقط بأثرها الآني بل الأهم هو الأثر طويل الأجل.