رَفْع العقوبات عن سوريا يُشكِّل بداية مرحلة جديدة للاقتصاد السوري، بعد سنوات طويلة من القيود والعُزلة الاقتصادية، من المتوقَّع أن يبدأ الانفتاح الاقتصادي التدريجي، وخلال المدى المتوسط والطويل ستظهر النتائج الإيجابية.
قبل رَفْع العقوبات، كان الاقتصاد السوري يعاني من انخفاض الإنتاجية، ونقص السيولة، وارتفاع تكاليف التشغيل، والإنتاج والتصدير في الحدود الدنيا، إضافةً لضَعْف قيمة الليرة وارتفاع التضخم والبَطالة، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية السلبية. واليوم بعد رَفْع العقوبات من المتوقّع أن تبدأ هذه المؤشرات بالتحسُّن، وأن يَلْمس المُواطِن تحسُّن مستوى المعيشة والدخل وتوافر فُرَص العمل.
التحسُّن الاقتصادي المُرتَقَب سيكون على عدة مستويات؛ المستوى الأول التمهيد لإعادة الإعمار؛ لأنّ قانون قيصر كان عقبة رئيسة أمام البدء بهذا المشروع، واليوم باتت الظروف الدولية مهيَّأة لاستقبال مشاريع في هذا الإطار. الاستثمارات الأجنبية أيضًا ستزداد، ومن الممكن خلال المدى المتوسط البدء باستقطاب رؤوس أموال عربية وأجنبية، إضافةً لرؤوس الأموال السورية في الخارج.
النظام المصرفي من القطاعات المستفيدة؛ من خلال إعادة العلاقات مع البنوك الأجنبية، والتمهيد لحلّ أزمة السيولة، وتحسين الخدمات المصرفية العامة، وتطوير نظام العمل، وهذه القضية تُعدّ بالغة الأهمية؛ لأن كفاءة وفعالية النظام المصرفي تُعدّ عاملًا رئيسًا وحاسمًا في استقطاب الاستثمارات، إضافةً لدور البنوك في تمويل المشاريع الجديدة ودعم التصدير والاستيراد.
على مستوى الخدمات العامة والدخل، التحسُّن الاقتصادي واستقطاب الاستثمارات يعني تحسنًا في مستوى الدخل في القطاعين العام والخاص، وتوفير فرص عمل، وتحسُّن الخدمات العامة من كهرباء وماء، وتوفير السلع بأسعار مقبولة في السوق؛ لأنه بعد رَفْع العقوبات أصبح بالإمكان الاستيراد بشكل مباشر، ما يعني انخفاضًا في أسعار السلع.
فيما يتعلق بسعر صرف الليرة، قد لا يتأثَّر بشكلٍ مباشر برفع العقوبات، وأيّ تحسُّن سريع سيكون مُؤقَّتًا سببه العامل النفسي، لكن ستخسر الليرة هذه المكاسب سريعًا؛ لأن نتائج رَفْع العقوبات على قيمة العملة تحتاج إلى وقت طويل نسبيًّا حتى تظهر؛ فالأمر متعلّق بزيادة الإنتاج والتصدير وتحريك الدورة الاقتصادية وتقليل الاستيراد وزيادة دخل الدولة بالدولار، وهذه العوامل تحتاج عدة أشهر، وقد تصل إلى سنة حتى تبدأ النتائج بالظهور.
هذه النتائج الإيجابية المتوقعة، ستُواجه عدة عقبات؛ منها: التضخم وغياب الحوافز الاستثمارية، والتعقيدات الإدارية، وأزمة السيولة، وغيرها من العقبات، لذلك لا بد من وَضْع خطط لمعالجة هذه التحديات؛ لأن الاستفادة من إلغاء العقوبات مرتبط بشكلٍ مباشر بمُعالَجة أيّ عقبة موجودة.
الاستفادة التامة من إلغاء قانون قيصر مُتوقِّفة على قدرة الحكومة على إدارة الموارد بكفاءة عالية، وتحسين البيئة التشغيلية، وتأمين حوامل الطاقة، وتقديم حوافز للاستثمار، وتنظيم إجراءات واضحة للتمويل والمشاريع، وتحديد أولويات الإنفاق بوضوح. فالرفع القانوني للعقوبات يمنح الضوء الأخضر، لكنه لا يضمن انخفاض التضخم أو ارتفاع قيمة الليرة تلقائيًّا؛ إذ تتأثر هذه المؤشرات بالإنتاج المحلي، وتوازن الميزان التجاري، وحجم السيولة المتاحة، ومدى قدرة الاقتصاد على توليد تدفقات نقدية مستقرة.
قطاع الطاقة يُمثِّل ركيزة أساسية لجَذْب الاستثمارات الصناعية والخدمية. توفير الكهرباء والغاز بشكلٍ منتظم يُتيح للشركات إعادة تشغيل خطوط الإنتاج، ويخفض تكاليف التشغيل، ويزيد القدرة التنافسية للمنتجات السورية في الأسواق الإقليمية والدولية. وفي القطاع الزراعي، يمكن للاستثمارات الجديدة تحسين الإنتاج وتوسيع الصادرات، ما يُسهم في تعزيز الإيرادات وتوفير المواد الغذائية الأساسية محليًّا.
مع توسُّع آفاق الاستثمار، تتزايد مسؤولية الحكومة في توفير بيئة جاذبة للمستثمرين، عبر تبسيط الإجراءات، وتطوير القوانين المنظمة للعمل الاقتصادي، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص، وتحسين البنية التحتية والخدمات الأساسية، وضمان توافر الطاقة والمياه. هذا يُمكِّن الاقتصاد من التحوُّل إلى نموذج قائم على التصدير لا الاستيراد والإنتاج لا الاستهلاك، ويجعل تحسُّن قيمة الليرة تدريجيًّا ومستدامًا، بعيدًا عن التأثيرات المُؤقَّتة وتَقلُّبات السوق.
الثقة تظلّ عاملًا حاسمًا في سرعة التعافي الاقتصادي؛ إذ يبحث المستثمرون عن بيئة مستقرَّة يمكن التنبّؤ بمسارها، وعن مؤسسات حكومية قادرة على إدارة المشروعات بكفاءة، وعن إجراءات واضحة لتنظيم التعاقدات والتمويل والمتابعة. ومع توافر هذه العناصر، تتحوّل أيّ مساهمة دولية أو محلية إلى قيمة فعلية في الاقتصاد، وتُعيد القطاعات الإنتاجية إطلاق دورة جديدة من النشاط والنمو.
كما أنّ القطاع الخاص السوري يلعب دورًا محوريًّا في إعادة تنشيط الاقتصاد؛ إذ يمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة أن تُسهم في إعادة توزيع الإنتاج وزيادة التنافسية؛ خاصةً في مجالات الصناعات الغذائية والخدمات اللوجستية والأنشطة التحويلية. ومع توفير برامج تمويلية متخصّصة لهذه الشركات، يمكنها توسيع عملياتها وخَلْق فُرَص عمل جديدة، ما يُعزّز الاقتصاد ويُخفّف الضغط على الدولة في توفير الوظائف.
الاستمرار في برامج الإصلاح الاقتصادي والإداري يُعدّ ضروريًّا لضمان فعالية القرارات المالية، وتوفير بيئة تشغيل مستقرة للقطاع الخاص، ورفع كفاءة الحكومة في إدارة المشاريع والاستثمارات. فالتناغم بين الدعم الدولي والإجراءات الداخلية يُشكِّل قاعدة أيّ استقرار مالي ونقدي مستقبلي، ويساعد على بناء اقتصاد مَرِن قادر على إدارة مرحلة إعادة الإعمار وتحسين المؤشرات الاقتصادية.
رَفْع العقوبات يَفْتح نافذة جديدة لإعادة تأهيل البنية الإنتاجية، وجَذْب رؤوس الأموال، وتعزيز موقع الاقتصاد السوري ضمن شبكات التجارة الإقليمية والدولية. ومع توسُّع حركة التمويل وعودة الشركات الأجنبية واستمرار المشاريع التنموية؛ تتوسع القاعدة التشغيلية، ما يزيد الطلب على الليرة ويُعزّز قيمتها ضمن مسار مستدام يرتبط بالإنتاج الحقيقي.
ختامًا، يُمثّل رفع العقوبات خطوة إستراتيجية نحو إعادة الانفتاح الاقتصادي في سوريا، لكنّه جزء من مسار طويل يتطلب إدارة حكومية فعَّالة للموارد، وتعاونًا وثيقًا بين القطاعين العام والخاص، واستثمار الدعم الدولي بطريقة إنتاجية واضحة. عند توافر هذه العناصر، يُصبح استقرار العُملة السورية هدفًا قابلًا للتحقُّق، مبنيًا على أُسُس متينة تبدأ من تحسين بيئة الأعمال وتنشيط الإنتاج، وتستمر بتطوير شبكة اقتصادية قوية قادرة على مُواجهة التقلبات وحماية المكاسب بشكلٍ مستدام.