يأتي الانقلاب العسكري الأخير في النيجر في سياق الصراع بين الغرب وروسيا على النفوذ في إفريقيا. فتصاعد موجة الغضب بالمستعمرات الفرنسية السابقة ضد باريس والغرب ترك الباب مفتوحًا أمام روسيا لزيادة نفوذها في القارة السمراء. ولو بطريقة غير مباشرة من خلال الاستفادة من المشاعر المعادية للغرب.
الانقلاب الأخير يعد الخامس خلال السنوات الثلاث الأخيرة الذي يقع في مستعمرات فرنسية سابقة في غرب ووسط إفريقيا. وبالتحديد في مالي وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد. وهو انقلاب مرفوض غربيا. خاصةً من الولايات المتحدة وفرنسا. وترحب به موسكو. ولهذا عدة أسباب..
في الحقيقة تستفيد روسيا من الانقلابات في إفريقيا بشكل عام. حيث تعمل مجموعة المرتزقة الروسية فاجنر في دعم العديد من المجالس العسكرية بالمنطقة. حتى إن رئيس المجموعة يفغيني بريغوزين رحب بالانقلاب. وعرض مساعدة القادة الجدد في البلاد. حيث تسعى المجموعة لاستغلال الأزمة في النيجر لصالحها.
السبب الثاني أن الانقلاب في النيجر حرم الدول الغربية وخاصةً فرنسا والولايات المتحدة من حليف رئيس في منطقة مضطربة. حيث تعد النيجر أكبر دولة في غرب إفريقيا. ولديها قصة نجاح كبيرة تتعلق بالديمقراطية في القارة. وكان ينظر إلى بازوم على أنه شريك رئيس في الحرب ضد الإرهاب بالمنطقة.
السبب الثالث أن الانقلاب يحرم الولايات المتحدة من وجودها العسكري في النيجر. حيث يتمركز حوالي 1100 جندي أمريكي في البلاد. كما توجد قاعدة طائرات بدون طيار تساعد الجيش النيجري على مواجهة الإرهابيين. كما يحتفظ الجيش الفرنسي بقاعدة في نيامي. يتم استخدامها في مكافحة الإرهاب بدول الساحل الإفريقي.
أبرز الخاسرين من الانقلاب العسكري في النيجر: فرنسا. فبخلاف وجودها الأمني فهناك ارتباط سياسي واضح بين البلدين. حيث ترتبط فرنسا بمستعمراتها القديمة في غرب القارة من خلال المنظمة الفرانكفونية. وتستخدم 14 دولة من تلك المنظمة في غرب ووسط إفريقيا عملة يتم صكها في فرنسا تحمل اسم الفرنك.
ويتعين على تلك الدول تخزين 50٪ من احتياطياتها من العملات لدى بنك فرنسا المركزي. وهو ما يسمح بالسيطرة على اقتصاد الدول التي تستخدمه. لكن بعد الانقلاب من المتوقع أن يتغير كل شيء. بل بات على الفرنسيين ترميم علاقتهم بالدول الفرانكفونية. وهو أمر صعب في ظل رغبة الصين وروسيا في الاستفادة من ثروات إفريقيا والتجارة معها.
السبب الرابع والأهم الذي يجعل روسيا ترحب بالانقلاب هو خروج يورانيوم النيجر. أحد المكونات الرئيسة في الأسلحة النووية. من تحت سيطرة الفرنسيين. حيث تعد نيامي مصدرًا رئيسًا لليورانيوم إلى الاتحاد الأوروبي. وتنتج حوالي 5٪ من إمدادات العالم من المعدن النفيس يتجه ربعهم لأوروبا.
وهذا يعني أن الانقلاب في النيجر يمكن أن ينذر بأخبار سيئة للطاقة النووية في الاتحاد الأوروبي إذا تم تقليل توافر اليورانيوم فجأةً.
اليورانيوم نفسه كان أحد أسباب الانقلاب. فعلى الرغم من ثروتها من هذا المورد. لا تزال النيجر واحدةً من أفقر الدول بالعالم. ويرى العديد من مواطنيها. وخاصةً جيل الشباب. أن فرنسا مسؤولة عن هذا الفقر. حيث كانت تنهب احتياطيات النيجر الهائلة من اليورانيوم لدعم إمداداتها الكهربائية.
في الواقع الترحيب بالانقلاب لا يتوقف عند مجرد الدعم السياسي للانقلاب. بل يمتد لدور واضح في القارة الإفريقية كلاعب جيوسياسي. من خلال المخابرات الروسية وقوات فاغنر في دعم الانقلابات العسكرية. ونقلها من دولة إلى أخرى على طول الساحل الغربي الإفريقي. وهو دور برز بشدة خلال العامين الماضيين. منذ الحرب مع أوكرانيا.
كما أن هناك ارتباطاً واضحاً لشركة فاجنر العسكرية الخاصة بالفظائع المرتكبة ضد المدنيين في مالي والسودان. حيث جاءت لمساعدة المجالس العسكرية. كما ظهر دورهم في دول إفريقية أخرى بما في ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا.
لكن المثير أن الانقلاب في النيجر تزامن مع القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبرج نهاية يوليو الماضي. حيث انتقد بوتين الاستعمار الغربي واستقطب الحضور بالهدايا. بما في ذلك إعفاء الصومال من الديون. وإنشاء مختبر طبي كبير في أوغندا. وإهداء زعيم زيمبابوي طائرة رئاسية خاصة.
وعلى الرغم من الحضور الضعيف لرؤساء القارة الإفريقية للقمة الأخيرة. بعد إلغاء روسيا لاتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية. وهو الأمر الذي أثار غضب بعض الزعماء الأفارقة. إلا أن بوتين دافع عن قراره. وتعهد بإرسال حبوب مجانية إلى ست دول إفريقية. أبرزهم بوركينا فاسو التي دعمت هي الأخرى انقلاب النيجر.
من غير المتوقع أن يتبع المجلس العسكري الجديد في النيجر المسار المتشدد المناهض للغرب الذي اتبعته الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينا فاسو. حيث تعتبر الولايات المتحدة وفرنسا النيجر آخر موطئ قدم رئيس لهما في منطقة الساحل. ولن تغادر قواعدها العسكرية بسهولة.
علاوةً على ذلك فسجل مكافحة الإرهاب الضعيف لمجموعة فاغنر في مالي سوف يثني قادة النيجر الجدد عن قبول مبادرات بريغوزين. كما أن المصالح التجارية للصين والقوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تفضل الاستقرار في النيجر. بغض النظر عن طبيعة النظام.
إلا أن فرصة استمرار التعاون الغربي في مكافحة الإرهاب مع النيجر تبدو ضعيفةً. حيث علق الاتحاد الأوروبي التعاون في المجال الأمني. وقررت فرنسا تعليق المساعدة الإنمائية. ورغم أنها لم تسحب قواتها البالغة 1500 فرد. إلا أنها أجلت بعض المواطنين الأوروبيين من النيجر. للتعبير عن تضامنها مع السلطات الشرعية في البلاد.
من جهة أخرى وبخلاف الموقف الأمريكي والغربي من الانقلاب وطريقة تعاطيهم معه. فمن المرجح أن تظل القوى الخارجية الأخرى كما هي. فالصين -تعد ثاني أكبر مستثمر في البلاد بعد فرنسا- تعمل حاليًا على تطوير خط أنابيب النفط بين بنين والنيجر بطول 1200 ميل. واستئناف تعدين اليورانيوم في النيجر بعد 9 سنوات.
الحال نفسه لدى تركيا. والتي عمقت تعاونها الأمني مع النيجر. حيث وقعت اتفاقية تعاون أمني في يوليو 2020م. كما قامت بإبرام صفقة لبيع 6 طائرات بدون طيار. وطائرات تدريب Hurkus في أواخر عام 2021م. كما تطمح تركيا أيضًا في بناء قاعدة جوية في النيجر لإيواء معداتها العسكرية.
أما عن العالم العربي فقد قدمت مصر التدريب والتمويل للقوات المسلحة في النيجر. وفي 8 يوليو 2023م زودت القاهرة النيجر بـشحنة كبيرة من المعدات العسكرية. مثل مركبات الاستطلاع المدرعة ومدافع الهاوتزر. ومن المرجح أن يستمر مستوى هذا التعاون بعد الانقلاب.
ورغم تضاؤل التعاون الأمني الإماراتي مع النيجر منذ أن قلصت دعمها للجنرال خليفة حفتر في ليبيا المجاورة في عام 2021م. إلا أن النيجر تتناسب مع إستراتيجية الإمارات الاستثمارية في غرب إفريقيا التي تبلغ تكلفتها 19 مليار دولار. من خلال مشروعات بناء السكك الحديدية والطرق والجسور والمطارات ومحطات الطاقة.
بينما يكتنف عدم اليقين المسار السياسي للنيجر على المدى القريب. فإن عدم الاستقرار قد يضر بمصالح كل أصحاب المصلحة الخارجيين الرئيسيين. وهو ما يمكن أن يقنع أصحاب تلك المصالح بعقد صفقة مع المجلس العسكري في النيجر. مع الضغط على قادة الانقلاب لقبول إطار عمل للانتقال إلى الحكم المدني.