شَارِك المَقَال

في مارس 1998، فاجأت روسيا العالَم حين أعلنت تخلّيها عن سداد ديونها وتركت الروبل ينهار، ما أدَّى إلى أزمةٍ ماليةٍ مُفاجئة هزَّتِ الاقتصاد العالَمي بكلّ فروعه، وأشعلتْ واحدةً من أخطر أزمات الديون في القرن العشرين.

 

لم تكن تلك الحادثة مجرد خلل في ميزانية دولة، بل درساً قاسياً؛ تراكُم الدَّيْن دون رقابةٍ صادقةٍ يُفضي إلى انهيار مفاجئ.  واليوم، نواجه صورة مُصغَّرة مشابهة على مستوى عالمي.

 

ارتفاع نسبة الديون العالمية

خلال السنوات الخمس الماضية، ارتفعت نسبة الديون العالمية بنحو 25% عن مستويات ما قبل جائحة كورونا، بحسب تقرير البنك الدولي في يونيو 2025. ولأن الحكومات لجأت للتمويل الخارجي من أجل الدَّفْع بعَجَلة التَّنمية ودعم المشروعات، تحوَّل ما كان يُرَى كأداة مُؤقَّتة للنجاة إلى فَخٍّ فَعَّال، بجانب اتِّساع الفجوة بين النمو وأعباء الدَّيْن، وسط ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى أعلى مستوياته.

 

وعلى مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، ضُرِبَ توازن الدَّيْن مقابل الناتج المحلِّيّ في بعض الدول النامية بذات القوة؛ حيث تُشير التحليلات إلى أنَّ تكلفة الاقتراض تضاعفت واقترب الدين إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مؤشر خطير وفق الخبراء.

 

تداعيات ارتفاع الديون

في محاولة لحماية استقرار ميزانيتها؛ اضطرت قرابة 78 دولة فقيرة، التي تُمثِّل رُبع سكان الكرة الأرضية تقريباً، إلى تقليص إنفاقها على القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية، لاستيعاب خدمة الدين، دون خيار حقيقي للالتفاف حول الأزمة. فيما يَستعدُّ أكثر من 1.2 مليار شابّ لدخول سوق عملٍ يُعاني من ضَعْف التصنيع وبُطْء الاستثمار الخاص. وهنا لم يَعُد الدَّيْن مُجرَّد ورقة مالية، بل تهديد اجتماعي مستقبلي.

 

ما يُثير الدهشة أنَّ بعض الدوائر الاقتصادية لا تأخذ هذه التداعيات بجدية تامَّة، بل تتعامل مع الأزمة كزَوْبَعَة مُؤقَّتَة ستمُرّ بعودة النموّ وانخفاض أسعار الفائدة، رغم ما نَعيشه من ضبابية سياسية وحروب تجارية تُقلِّل من منطق هذه التوقُّعات بشكل كبير. وهنا المشهد الاقتصادي الجيوسياسي يرسم هذه الصورة بوضوح: ليس هناك وقت للطوارئ بل للمُراجَعة الشاملة.

 

والفشل في الخروج من هذه لا تقع أعباؤه على أكتاف الحكومات فقط، بل سيَطَال القطاع الخاص وذلك نظراً لتضخُّم الدَّيْن المحلّي.

 

وسائل التصدي لتداعيات الديون

يجب أن تكون هناك آلية لدى الحكومات لتسريع عمليات النموّ من خلال إيجاد بيئة استثمار مشجّعة، وإلغاء الحواجز الجمركية، والتعريفات التي قيَّدت تدفُّق رؤوس الأموال والتكنولوجيا.

 

المطلوب اليوم إعادة رسم خارطة الدَّيْن عبر سقوف واضحة، بنسبة 40% من الناتج في الدول الفقيرة و60% في البلدان الغنية، مع رَفْع القيود على التجارة والاستثمار لتسهيل تدفُّق رؤوس الأموال الخاصة، خصوصاً في ظل عَجْز الحكومات عن تمويل خطط النمو، وضرورة وجود شفافية مُطلَقَة في كلّ أرقام الديون، كما لا بد من إزالة العقبات التجارية التي تمنع تدفُّق رأس المال الخاص أو تَعْبَث بالثقة الدولية بالأسواق.

 

إذا لم نتحرَّك الآن، فسنشهد دَيْناً متراكماً يُؤدِّي إلى تقليص النموّ وتفاقُم البَطالة، وربما تأجيل طاقات الشباب إلى أجيال مُقْبِلَة. الفاتورة على ما يبدو أُجِّلَتْ ولم تُلْغَ.

 

خلاصة القول: العالم على شفا حُفْرة الديون، فهل سنتمكن من إيقاف الانزلاق؟ هل سنملك الحكمة لنُعيد ترتيب الديون قبل أن تنفجر في وجوهنا؟ أم أن العالم لا يزال في حالة إنكار، تَحْفر الديون فيه حفرةً أعمق من حفرة روسيا 1998؟

شَارِك المَقَال