مشاركة

في شتاء عام 1904، ذهب الصحفي والمؤلف الأمريكي “أوبتون سنكلير” إلى مدينة شيكاغو؛ للتعرُّف على ظروف العمل المُزْرِيَة في مصانع تعليب اللحوم.

 

لم يُصدِّق أن العمال يُجْبَرُون على الوقوف لساعات طويلة دون راحة، وصوَّر مشاهد صادمةً عن طريقة تحضير اللحوم، وأن هذا في النهاية يُرْسَل إلى موائد الأمريكيين.

 

كان هذا الأمر مادةً أساسيةً في كتابة روايته الشهيرة The Jungle، التي سرعان ما تحولت إلى فضيحة وطنية.

 

غضب الناس من طريقة تصنيع الطعام، لكن سنكلير علق بمرارة: “استهدفت قلوب الناس لكني بالصدفة أَصَبْتُ بطونهم”. ما أراده سنكلير لم يكن إصلاح سلامة الغذاء فقط، بل أرد فضح منظومة تقدم الأرباح على البشر. كانت تلك واحدةً من أولى صرخات التمرُّد على جشع الرأسمالية الحديثة؛ حيث دفعت هذه الرواية إلى إقرار قوانين تفتيش فيدرالية على الأغذية.

 

جشع الرأسمالية الحديثة

الرأسمالية، في جوهرها، نظام اقتصادي قائم على حرية السوق، وتراكم رأس المال. نظام حرَّك الاقتصاد العالمي، ورفع الإنتاجية، وخلَق فرصًا بلا حدود. لكنَّها في نسختها المتوحشة، ومع تآكل القيود والتنظيم، تحوَّلت إلى ماكينة ضخمة تلتهم كلّ شيء: البشر، الموارد، وحتى الأخلاق. من مناجم الكونغو إلى بورصات وول ستريت، يتكرَّر السؤال: كم تساوي حياة الإنسان أمام مكاسب المليارات؟

 

لنأخذ مثالًا من واقع اليوم: شركات الأدوية الكبرى. في عام 2020م، وبينما كانت جائحة كورونا تحصد الأرواح في كلّ القارات، وقد تولَّت حكومات العالم من الولايات المتحدة إلى أوروبا وآسيا تمويل الأبحاث بـمليارات الدولارات، مثل برنامج Operation Warp Speed الذي ضخَّ نحو 14مليار دولار للشركات الخاصة لتطوير علاج كورونا، وتلقَّت شركة “فايزر” fizer   2 مليار دولار من البرنامج وذلك لشراء 100 مليون جرعة من اللقاح الذي أنتجته الشركة، رفضت شركات مثل “فايزر” fizer  موديرنا Moderna مشاركة تراخيص اللقاح مع الدول النامية.

 

النتيجة أن اللقاحات توفرت في الشمال، وتأخرت في الجنوب، ودفعت مئات الآلاف من الأرواح ثمنًا للتفاوت الطبقي في الحق في الحياة. الرأسمالية الجشعة لم تكتفِ بتحويل الدواء إلى سلعة، بل جعلت العدالة الصحية رهينةً لحسابات الأرباح.

 

كيف تحوَّلت الآلات إلى أداة للعقاب؟

في قطاع التكنولوجيا، تتكرَّر المعادلة. تُقدِّم الشركات الكبرى مثل Amazon وApple نفسها كمُحرّك للابتكار والتقدُّم. لكنْ خلف واجهاتها اللامعة، يقف آلاف العمال في المستودعات، يُرَاقَبُون بالدقيقة، ويُحْرَمُون من فترات راحة كافية.

 

تستخدم أمازون خوارزميات لطَرْد العُمال تلقائيًّا دون تدخُّل بشري. أي أن “الآلة” لم تَعُد فقط رمزًا للإنتاج، بل صارت أداةً للعقاب.

 

الضحية الصامتة

أما البيئة، فهي الضحية الصامتة. وفقًا لتقرير نشرته صحيفة the guardian في 2017م، فإن 100 شركة فقط مسؤولة عن 71% من انبعاثات الكربون العالمية منذ عام 1988. شركات النفط والغاز والفحم تستمر في التنقيب، بينما تعاني الشعوب من فيضانات، حرائق، وانهيار محاصيل. الرأسمالية لا تزرع الأشجار، بل تحاسبنا على أكياس البلاستيك… فيما تُوقِّع عقودًا بمليارات لاستخراج الوقود من باطن الأرض.

 

كيف يتحقق الربح رغم الجوع الجماعي؟

لم ينجُ الغذاء من الجشع. في عام 2022، ومع رفع أسعار الحبوب نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، أعلنت شركات عملاقة مثل كارجيل Cargill عن إيرادات قياسية بلغت 165 مليار دولار. أما شركة آرتشر دانيلز ميدلاند Archer Daniels Midland، فحقَّقت ارتفاعًا كبيرًا في أرباح الربع الثاني من 2022؛ إذ صعدت بنسبة 74% مقارنةً بالعام السابق، مدفوعةً بأعلى أسعار للقمح وفول الصويا.

 

في الوقت نفسه، شهدت دول إفريقية ارتفاعًا حادًّا في معدلات الجوع. فكيف يتحقَّق الربح في لحظة جوع جماعي؟ كيف تحتفل الشركات في بورصة نيويورك، بينما يتقاسم أطفال إفريقيا رغيفًا واحدًا؟ هنا، لا يكون الجشع خطأً فرديًّا، بل بنية نظام.

 

في 2024، نشرت منظمة أوكسفام Oxfam تقريرًا أظهر 1% من أغنياء العالم يملكون ثروةً تفوق ما يملكه 95% من البشرية مجتمعةً. هذا التفاوت ليس صدفةً، بل نتيجة سياسات ممنهجة: إعفاءات ضريبية للأثرياء، تهميش للنقابات، خصخصة للخدمات العامة. كل ذلك يُغذِّي نظامًا يكافئ الاحتكار ويعاقب التعاون.

 

نماذج مقاومة للنظام الرأسمالي

على الرغم من كل شيء، هناك نماذج مقاومة للنظام الرأسمالي. ففي أمريكا اللاتينية، تتبنَّى بعض الدول نماذج اقتصاديةً تفرض ضرائب تصاعديةً، وتُعيد توزيع الثروة؛ فقد اعتمدت بوليفيا في 2020م ضريبةً سنويةً على الثروات الفائقة (wealth tax)، تصل إلى 2.4% لأولئك الذين لديهم ثروة تزيد على 50 مليون بوليفيانو.

 

وفي أوروبا، تزداد الدعوات لفَرْض “ضريبة الثروة الفائقة”؛ لتحقيق العدالة الاجتماعية. وحتى في قلب الرأسمالية، بدأت أصوات تظهر تنادي بما يُعْرَف بـ”الرأسمالية الاجتماعية” التي تُوازِن بين الربح والعدالة.

 

خلاصة القول: الرأسمالية ليست عدوًّا بحدّ ذاتها. هي أداة، لكن حين تُتْرَك دون ضوابط، تتحوَّل إلى وَحْش. والسؤال اليوم ليس إن كنا سنلغي النظام، بل: كيف نُعيد توجيهه؟ كيف نُعيد تعريف النجاح، فلا يكون فقط في حجم الأرباح، بل في جودة الحياة، وفي كرامة العمل، وفي حماية الأرض؟

 

في نهاية المطاف: الشعوب لا تُطالب بعالم بلا أسواق، بل بأسواق لا تُعامل الإنسان كرقم، ولا الأرض كمخزن مُؤقَّت. الرأسمالية، إن أرادت أن تبقى، عليها أن تتغير… وإلا، ستنهار تحت وطأة شراهتها.

 

مشاركة