مشاركة

التزايد الملحوظ في عدد السجلات التجارية والشركات المُؤسَّسة في سوريا يَعْكس نشاطًا اقتصاديًّا متناميًا ورغبةً واضحة لدى الأفراد والمستثمرين في الدخول إلى السوق، أو إعادة تنظيم أنشطتهم ضمن الإطار القانوني.

 

هذا الإقبال يَحْمل دلالات إيجابية تعكس تفاؤلًا بالمستقبل الاستثماري والتنموي في البلاد، لكنّه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية تتعلق ببيئة تأسيس الأعمال، وقدرتها على استيعاب هذا الزخم وتحويله إلى نموّ اقتصادي فِعْلي.

 

استمرار الروتين الإداري وتعقيد الإجراءات يُفسَّر إلى حدّ كبير بعوامل بنيوية تراكمت على مدى سنوات؛ أبرزها: تَعدُّد الجهات المعنية بعملية تأسيس الشركات، وتداخُل الصلاحيات بينها، إضافةً إلى الاعتماد الواسع على المعاملات الورقية التقليدية. هذه العوامل تُؤدِّي عمليًّا إلى إطالة زمن إنجاز المعاملة، ورَفْع كُلفتها غير المباشرة، ما يجعل مرحلة التأسيس بحدّ ذاتها اختبارًا أوليًّا لجدية المستثمر وقدرته على الاستمرار.

Top of Form

Bottom of Form

 

وينعكس هذا الواقع بشكلٍ مُباشِر على جَذْب الاستثمارات وتنشيط الاقتصاد المحلي. فسهولة الدخول إلى السوق تُعَدّ من المؤشرات الأساسية التي يُقَيِّم المستثمر من خلالها بيئة الأعمال. وكلما زادت الإجراءات وتعقدت المسارات؛ تراجعت القدرة على تحويل المبادرات الفردية إلى مشاريع مُنتِجَة، وهو ما يَحُدّ من فُرَص العمل وتوسيع النشاط الاقتصادي المُنظَّم.

 

من حيث التشريعات، لا تبدو القوانين المُنظِّمة لتأسيس الشركات هي المشكلة الأساسية؛ إذ تتضمَّن أُطُرًا تنظيمية مُعتمَدة ومُقارَبة لما هو معمول به في العديد من الدول. التَّحدّي الأبرز يكمن في آليات التطبيق؛ حيث يؤدي تَعدُّد التفسيرات، وضَعْف التنسيق المؤسسي، وغياب المسارات الزمنية الواضحة، إلى فجوة بين النص القانوني والممارسة العملية. ممَّا يُحَوِّل الإجراء الإداري من أداة تنظيم إلى عِبْء إضافي على المستثمر.

 

في هذا السياق، يبرز التوجُّه نحو تحديث البِنْيَة الإدارية كأحد المسارات الأساسية لتحويل تأسيس الشَّركات إلى أداة تحفيز اقتصادي. كما أن تطوير منظومات رقمية مُوحَّدة، ورَبْط الجهات المعنية ضمن قاعدة بيانات مشتركة، يُسهم في تقليص الزمن والتكلفة، ويُعزّز الشفافية والموثوقية.

 

وفي هذا الإطار، يجري العمل حاليًّا على اعتماد منظومة “بنك المعلومات التجاري الجديد”، باعتبارها خطوة تهدف إلى أتمتة وأرشفة بيانات الشركات والسجلات التجارية، وتسهيل تبادل المعلومات بين الجهات المختلفة، بما ينسجم مع متطلبات المرحلة الاقتصادية الحالية.

 

أما الإصلاحات العاجلة المطلوبة، فتَتمثَّل في تبسيط الإجراءات، وتقليص عدد الخطوات اللازمة لتأسيس الشركات، مع توحيد المتطلبات، وتحديد مسارات واضحة لإنجاز المعاملات. كما أنّ مُراجعة الرُّسوم والتكاليف المرتبطة بالتأسيس باتت ضرورة، خاصةً في ظلّ الحاجة إلى استثمار الزخم القائم في السوق السورية، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة على الانتقال إلى العمل المنظَّم.

 

من جهة أخرى، تشير المقارنات الإقليمية إلى أنّ رسوم تأسيس الشركات في سوريا ما تزال أعلى من العديد من الدول المجاورة، وهو عامِل يُؤثِّر على تنافسية بيئة الأعمال. ففي بيئة اقتصادية متقاربة من حيث المخاطر والفُرَص، تُصْبِح الفوارق في الكُلْفَة وسرعة الإجراءات عنصرًا مُؤثِّرًا في قرارات المستثمرين. ورغم أنّ هذه الرسوم لا تُلغي الاهتمام بالسوق السورية؛ إلا أنها قد تَدْفع بعض المستثمرين إلى إعادة ترتيب أولوياتهم أو تأجيل قراراتهم الاستثمارية.

 

في المُحصِّلة، يعكس ارتفاع عدد الشركات المُسجَّلة فرصة اقتصادية حقيقية، لكنّ استثمارها يتطلب بيئة إدارية أكثر مرونةً وتكاملًا. تبسيط تأسيس الشركات وخَفْض الرسوم لا يُعدّ تنازلًا عن التنظيم، بل خطوة ضرورية لتعزيز الثقة، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وتحويل الحراك الإداري إلى نموٍّ مستدام ينعكس على الإنتاج وفرص العمل.

 

مشاركة