تعيش قطر هذه الأيام حالةً من التأهب القصوى قبيل أيام من انطلاق بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022م. لكن وسط تلك الاستعدادات تواجه قطر حملة أوروبية ممنهجة تدور حول انتهاكات قطر لحقوق العمال الأجانب. وعلى ما يبدو فإن هذه الحجج تعد ذريعةً وواجهةً لأسباب أخرى أكثر عمقاً تتعلق بالمصالح الاستراتيجية. وتحديد جوهر الخلاف يعد محورياً لفهم تطورات هذه الحملة على قطر.
تتلخص الانتقادات الأوروبية لقطر في معاملتها المسيئة -على حد زعمها- للعمال الأجانب العاملين في قطر. وتحديداً في المنشآت الرياضية المجهزة لاستضافة البطولة. وهو ما نفته قطر بشدة. وأكدت أنه لا توجد أي انتهاكات لحقوق العمال. وأن أي ادعاءات في هذا المجال تعد باطلةً وتهدف لتحقيق أهداف سياسية خفية.
في الحقيقة تعد الانتقادات المرتبطة بحقوق العمال واجهةً لإخفاء أسباب التوتر الحقيقية. فسبب التوتر يرتبط بالمصالح الاقتصادية الاستراتيجية. وتحديداً بقضية الغاز وتسعيره. لا سيما أن قطر تعد المصدر الأكبر للغاز المسال في العالم. وتزداد أهمية هذه القضية في ظل الضغوط الحادة التي تتعرض لها أوروبا في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
في الواقع الأزمة الرئيسة بين قطر وأوروبا تتمثل في معارضة قطر بشدة لفكرة تحديد سقف لأسعار الغاز. التي تحاول من خلالها أوروبا فرض عقوبات اقتصادية على موسكو. وذلك لتقليل إيرادات موسكو من بيع الغاز. لكنها بذلك -ووفقاً لوجهة النظر القطرية- تنتهك قواعد المنافسة وأعراف التجارة الدولية.
بالطبع تدرك قطر أن سوق الغاز الطبيعي المسال ستكون سوقاً رائجةً على المدى القريب. حيث سيحدد البائع شروطه. ومن المتوقع بشدة زيادة الطلب على الغاز المسال مقابل المعروض في غضون 3-4 سنوات على الأكثر. وهو ما يجعل قطر تطالب بأفضل شروط. ومن بينها العقود طويلة الأجل لمدد تصل لـ20 عاماً.
في المقابل ترفض أوروبا وعلى رأسها ألمانيا -المستورد الأكبر للغاز في القارة العجوز- هذه الشروط. وتسعى إلى وضع آلية جديدة لتسعير الغاز. تسمح بنطاق مرن يسمح فيه للأسعار بالتقلب. ما يجعل من الممكن تخفيف التقلبات وتجنب أي ارتفاع حاد.
تعتمد قطر في إصرارها على بيع الغاز الطبيعي المسال وفق شروطها على ترحيب دول آسيا بالغاز القطري. كما أن موردي الغاز الآخرين إلى أوروبا ليسوا متحمسين أيضاً لفكرة وضع معايير وآلية جديدة لتحديد سعر الغاز الطبيعي. وفي ذات الوقت فإن السوق الأوروبي ليست مهمةً جداً لقطر. خاصةً أن البنية التحتية الأوروبية ليست مجهزةً لاستلام كميات كبيرة من الغاز المسال.
بدأت الضغوط الأوروبية على قطر في سبتمبر الماضي من خلال زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى قطر. وتقديمه عرضاً للدوحة بتعزيز الشراكة في مجال الطاقة مقابل تأمين عقود طويلة الأجل. لكنها لم تثمر عن جديد بشأن تحديد سقف سعر للغاز الطبيعي.
على الجانب الآخر أدلت نانسي فيزر وزيرة الداخلية الألمانية بتصريحات مثيرة. تتهم فيها قطر بالإساءة للعاملين في المنشآت الرِّياضيَّة ضِمْن استعدادات قطر لبطولة كأس العالم 2022م. وهو ما استدعى غضب الخارجية القطرية. واستدعاء السفير الألماني لدى الدوحة. وإبلاغه احتجاجها على تلك التصريحات. وهذا دليل على اختلاف وجهات النظر الأوروبية والقطرية حيال آلية تسعير الغاز.
العقود التي وقّعتها قطر مع دول آسيا طويلة الأمد. ولا يمكن تغييرها بسهولة. لما لها من آثار قانونية صعبة على القطريين. كما أن النفط ثروة يجب استغلالها بما يحقق مصالح الدول المنتجة. ومثلما استفادت أوروبا من الأسعار المنخفضة للغاز لسنوات طويلة فعليها أن تقبل بمبادئ السوق وأهمها العرض والطلب.
لا يمكن توقع أي تأثير سلبي على المدى المتوسط أو الطويل على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وقطر. فهناك مصالح عليا لا يمكن تجاوزها. كما أن بطولة كأس العالم حدث رياضي سيمر وينتهي. وتظل المصالح الاقتصادية حاضرةً. ومن المتوقع أن تقدم وزيرة الداخلية الألمانية اعتذارها عن تلك التصريحات.
في النهاية لعبة المصالح الاقتصادية دائماً ما تتفوق على أي اعتبارات أخرى. ومع استضافة قطر المتميزة المتوقعة لبطولة كأس العالم 2022م. سيكون من السهل تجاهل أي ادعاءات تتعلق بحقوق العمال أو غيرها. وعلى أي حال لا يتوقع استمرار تلك الانتقادات لما بعد البطولة.