شهدت العلاقات الدولية في العقود الأخيرة تحوُّلات عميقة، لم تقتصر على تغيُّر التحالفات أو انهيار بعض الأنظمة، بل طالت جوهر الصراع نفسه. ففي حين كان سباق التسلح والمواجهة العسكرية السمة الأبرز للحرب الباردة، تبدَّل المشهد اليوم لصالح صراع من نوع جديد، عنوانه الهيمنة الاقتصادية والحروب التجارية.
مع هذا التحوُّل، تغيّرت خريطة توزُّع القوى الدولية، فلم تَعُد مراكز القرار حِكرًا على حاملات الطائرات والصواريخ البالستية، بل أصبحت الأسواق، وسلاسل التوريد، والتكنولوجيا، والرسوم الجمركية أدوات رئيسة في إدارة النفوذ العالمي. وهذا ما يشهده العالَم في المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، التي تُمثّل ذروة هذا التحوُّل في بنية النظام الدولي، وتكريسًا لواقع جديد بات الاقتصاد فيه ساحة الصراع الأولى.
ترامب والحرب الاقتصادية على الصين
تتَّخذ واشنطن مسارًا تصاعديًّا في المواجهة الاقتصادية مع الصين، شمل فَرْض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الصينية، بلغت 145%. لم تكن هذه الخطوة موجَّهة إلى الصين وحدها، بل طالت أكثر من 180 دولة حول العالم، في خطوةٍ أعادت تعريف مفهوم السيادة التجارية الأمريكية. ردّ بكين لم يكن تقليديًّا هذه المرة، فقد قابلت الرسوم الأمريكية برسوم مقابلة وصلت إلى 125%، مُلوِّحةً بمزيدٍ من التصعيد. وهدَّد ترامب لاحقًا برفع الرسوم إلى 245%، في مشهدٍ يعكس حدة التصادم.
الصين تردّ بقوة… المعادن النادرة سلاح إستراتيجي
في مواجهة هذه الضغوط، استخدمت الصين أحد أقوى أوراقها: المعادن الأرضية النادرة. وهي عناصر أساسية تدخل في تصنيع الإلكترونيات الدقيقة، والهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، والأهم من ذلك في صناعة الأسلحة المتطورة مثل طائرات F-35 وصواريخ توماهوك. وتُنتج الصين ما يُقارب 92% من هذه المعادن على مستوى العالم، ما يَمنحها نفوذًا كبيرًا في السوق العالمية. هذا التَّصعيد ليس فقط اقتصاديًّا، بل له بُعْد إستراتيجي واضح؛ لأنه يمسّ البنية التحتية لصناعة الدفاع الأمريكية، ويُهدّد استقرار الصناعات الحيوية المرتبطة بالأمن القومي.
خطة “عكس كيسنجر”… إعادة تموضع عالمي
ما يسعى إليه ترامب في هذا الصراع يُشبه سياسة وزير الخارجية الأمريكي الشهير هنري كيسنجر، ولكن بأسلوب معكوس. ففي السبعينيات، كسر كيسنجر التحالف بين موسكو وبكين، وتم عزل الاتحاد السوفييتي. أما اليوم، فيحاول ترامب عزل الصين عن العالَم، عبر إنهاء حرب أوكرانيا، وتحييد روسيا، والدخول في مفاوضات مع إيران. لكنّ التحدي الأكبر هو أن الصين ليست بحاجة إلى شبكة حلفاء كما كان الاتحاد السوفييتي؛ لأنها تعتمد على اقتصادها القوي وشبكاتها التجارية، التي تشمل أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومن المُفارَقات أن رسوم ترامب طالت حتى الحلفاء الأوروبيين، ما فتَح الباب لتقارب مُحتمَل بين بكين والاتحاد الأوروبي.
لا منتصر في الحروب التجارية
على الرغم من غياب التهديد المباشر باستخدام القوة العسكرية؛ إلا أن الحروب الاقتصادية قد تكون أكثر تدميرًا؛ لأنها تضرب البنية التحتية للنموّ والاستقرار. كلّ من واشنطن وبكين يدرك أن التراجع يعني خسارة إستراتيجية، لذلك تستمر المعركة بصمت، وتدفع كُلفتها الشعوب والأسواق. الصين خسرت بعض القطاعات وتُواجه تحديات داخلية، فيما تُواجه أمريكا معضلة التضخم وتحديات التصنيع.
الخيار المنطقي يبقى في التفاوض، لكنّ التعقيدات السياسية تجعل هذا الخيار صعبًا في الوقت الراهن، خصوصًا مع دخول الصراع في سباق صمود وتحمُّل طويل الأمد. وإن كان الاقتصاد هو عَربة السياسة، فإن وجهة العالم اليوم أصبحت واضحة: نحو صراع طويل المدى، متعدّد الجبهات، يُرسَم بقواعد جديدة، وسط نظام عالمي يُعاد تشكيله.