شَارِك المَقَال

في عام 1955، قرَّر الأمريكيون من أصل إفريقي في مدينة مونتغمري بولاية ألاباما التوقُّف عن ركوب الحافلات العامة. كان القرار بسيطاً من حيث الشكل، لكنَّه تاريخيّ في أثَره. استمرت المقاطعة 381 يوماً، تكبَّدت فيها شركة النقل خسائر فادحة، وانتهت بصدور حكم المحكمة العليا الأمريكية بإلغاء الفصل العنصري في الحافلات. لم تكن مظاهرة ولا خطاباً نارياً، بل مجرد مقاطعة… لكنَّها غيَّرت مسار الحقوق المدنية في أمريكا.

 

المقاطعة الاقتصادية والتأثير السياسي السلمي

ارتبطت المقاطعة الاقتصادية بفكرة التأثير السياسي السلمي. واليوم ومع تنامي العولمة، وتعقيد سلاسل الإمداد، واختلاط المصالح بين الحكومات والشركات، يعود السؤال بقوة: هل لا تزال المقاطعة الاقتصادية فعَّالة؟ وهل لها بالفعل تأثير سياسي؟ الإجابة ليست نعم أو لا، بل “تعتمد” على التنظيم، على البدائل، وعلى الاستمرارية.

 

في أحداث غزة عام 2023، شهدت المنطقة موجة واسعة من دعوات المقاطعة استهدفت عدداً من العلامات التجارية العالمية مثل ماكدونالدز وستاربكس وبيبسي، بسبب اتهامات بدعم مواقف سياسية مثيرة للجدل. وقد لاقت هذه الدعوات استجابة شعبية واسعة، أدَّت إلى تراجع ملحوظ في أداء بعض الشركات في أسواق المنطقة، بينما حافظت على نموّها في مناطق أخرى.

 

لم تصل هذه الحملة إلى إنهاء عقود أو سحب استثمارات كبرى، لكنها خلقتْ ضغطاً رمزياً قوياً أجبَر بعض الفروع والشركات المحلية التابعة لتلك العلامات على إصدار بيانات توضيحية أو التنصُّل من مواقف مركزها العالمي. وهو تأثيرٌ معنويٌّ يُضاف إلى المشهد السياسي المتوتر.

 

عندما تكون المقاطعة أداة فعَّالة

خذ مثلاً تجربة مقاطعة المنتجات الفرنسية في عددٍ من الدول الإسلامية في 2020، عقب تصريحات ماكرون حول الرُّسوم المسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. فخلال أسابيع قليلة، خَسِر عدد من الشركات الفرنسية الكبرى حصةً ضخمةً من السوق الخليجية، مثل Carrefourوغيرها، واضطرت باريس لإطلاق حملات تواصل دبلوماسي وتجاري لامتصاص الغضب.

 

حتى في السياقات الرسمية، كانت المقاطعة أداة فعَّالة. بعد غزو أوكرانيا في 2022، قرَّرت دول أوروبا حَظْر واردات النفط الروسي عبر البحر. ولذا تراجعت حصَّة الواردات الأوروبية من الغاز المسال والمنقول من روسيا أقلّ من 15%، وانخفضت إيراداتها النفطية بنسبة 41% في يناير وفبراير 2023 مقارنةً بالعام السابق.

 

ليست كلّ المقاطعات ناجحة

من جهة أخرى، ليست كلّ المقاطعات ناجحة. ففي 2003، مع غزو العراق، تصاعدت دعوات مقاطعة المنتجات الأمريكية في عدة دول عربية. ورغم الزخم الشعبي، فإنَّ غياب التنسيق، ونُدْرة البدائل، سرعان ما أفرغ الحملة من معناها، وعادت البضائع الأمريكية إلى الأسواق كأن شيئاً لم يكن.

 

الأمر تكرّر مع محاولات مقاطعة شركات مثل Google وFacebook، التي لم تجد صدًى حقيقياً بسبب غياب بدائل تكنولوجية مُقْنِعَة. وكذلك، المقاطعات العشوائية التي تشتعل على وسائل التواصل الاجتماعي مع كلّ أزمةٍ ثم تَخْفُتْ خلال أيام، نادراً ما تُؤدِّي إلى نتائج ملموسة.

 

شروط نجاح المقاطعة الاقتصادية

لكي تنجح المقاطعة اقتصادياً وتُؤثِّر سياسياً، يجب أن تتوفر عدة شروط:

أولاً: وجود بديل.

ثانياً: تنظيم ووَعْي جماعي.

ثالثاً: رَبْط المطالب السياسية بالهدف الاقتصادي.

رابعاً: الزخم الشعبي والاستمرارية.

والأهم من كل ذلك: أن يُفْهَم أنَّ المقاطعة ليس حركة استهلاكية، بل أداة مقاومة سياسية واقتصادية؛ فهي سلاح في يد المواطن… لا يُطْلَق إلا بدِقَّة.

 

المقاطعة الاقتصادية ليست مجرد امتناع عن الشراء. بل هي بيان سياسيّ مكتوب بلغة السوق، لها تأثير، بشرط أن تكون مُنظَّمة، واعية، ومبنية على أهداف واضحة وخطط بديلة. وفي الوقت نفسه هي ليست حلاً سحرياً، لكنّها من الأدوات القليلة التي يستطيع بها الناس التعبير عن موقفهم دون أن يحملوا سلاحاً… فقط يحملون وَعْيهم، ومحافظ نقودهم.

شَارِك المَقَال