شَارِك المَقَال

في الفترة ما بين عام 1957 و1990، كانت اليابان تقف على قِمَّة العالَم. اقتصادُها مُتقدِّم، شركاتها تتوسَّع عالمياً، وعقاراتها تُباع بأسعار فَلَكية.

 

ويكفي لشرح ذلك أنك في ذلك الوقت كان بإمكانك شراء كامل مساحة “مانهاتن” الأمريكية بثمن حي صغير في طوكيو. وكان الشُّعور السائد أنّ اليابانيين كسروا المعادلة، وأنّ المستقبل مِلْكَهم. بل في الثمانينيات، سجَّلت اليابان أعلى ناتج محلِّي إجمالي للفرد على مستوى العالَم.

 

عقود من الرُّكود والانكماش

لكنَّ الفقاعة انفجرت؛ في عام 1991، بدأ ما بات يُعْرَف بـ”السنوات الضائعة”. عقود من الرُّكود والانكماش، رغم كلّ المحاولات والإصلاحات، ظلّ الاقتصاد في حالة جمود. البنوك تحوَّلت إلى كيانات مُنْهَكَة من الخسائر، وظهَر مصطلح “النموّ السلبيّ”. واستمر هذا الوضع حتى عام 2003. ومن وقتها، تحوَّلت اليابان إلى تجربة اقتصادية فريدة: دولة مُتقدّمة، لكنَّها تعاني تضخماً سلبياً أو أقرب إلى الصفر.

 

وبينما كانت الدول الأخرى تقاتل من أجل خَفْض الأسعار، كانت اليابان تبحث عن أيّ وسيلة ترفعها، ليس لأنّها ترغب بالغلاء، بل لأنها تخشى ما يُعرَف بـ”الركود الانكماشي” حين يصبح انخفاض الأسعار مرضاً مزمناً يجعل الناس تُؤجِّل قرارات الشراء، والشركات تتردَّد في الاستثمار، ويدور الاقتصاد في حلقة من الجمود الصامت. ومن هنا، بدأ المسار الياباني يختلف.

 

البنك المركزي الياباني كان أول بنك في العالم يَتبنَّى أسعار فائدة صفرية، ثم سلبية. ثم بدأ يشتري سندات حكومية وأسهم. سياسة طويلة من التَّحفيز المالي، ومع ذلك، لم تنجح في تغيير العقلية اليابانية المُحافِظَة التي لا يمكن تغيير سلوكها بسهولة.

 

لماذا تجربة اليابان مختلفة؟

مع الأزمات العالمية المتتالية مثل جائحة كورونا، وبعدها حرب أوكرانيا، اهتزّت معظم أسواق العالم. التضخُّم أصبح عنوان المرحلة، أسعار الغذاء، الطاقة، الأجور، الخدمات… الكلّ في ارتفاع. والمصارف المركزية حول العالَم اتَّبعت سياسة رَفْع الفائدة بوتيرةٍ متسارعةٍ. لكنَّ اليابان بقيت ثابتة تقريباً!! الأسعار بالكاد تتحرَّك، والبنك المركزيّ لا ينوي رَفْع الفائدة.

 

في مايو الماضي، وصلتْ نسبة التضخم 3.5%، وهو أعلى مستوى له منذ عامين. رقم يبدو بسيطاً إذا قُورِنَ بالولايات المتحدة أو أوروبا، لكنْ في السياق الياباني هذا رقم تاريخي.

 

الثقافة الاقتصادية في اليابان

والسؤال هنا: لماذا اليابان مختلفة؟ الجواب ليس فقط في السياسات، بل في الثقافة الاقتصادية نفسها. المُستهلِك الياباني عندما يرى السعر يرتفع، لا يسأل “كم السعر؟” بل يسأل “لماذا ارتفع”. والشركات هناك تتردَّد كثيراً قبل أن تَرْفَع الأسعار؛ لأنها ترى في ذلك مخاطرةً أخلاقيةً قد تُفْقِدها ثقة الزبون.

 

في مجتمع مثل اليابان، الطلب بطبيعته منخفض، والناس تميل للتوفير أكثر من الاستهلاك. في المقابل، كانت الحكومات اليابانية تاريخياً تُسْهِم في دَعْم الأسعار وتخفيف العِبْء عن المواطنين. حتى عندما ارتفعت أسعار الطاقة عالمياً، لم يَشْعُر المُواطِن الياباني بذلك بنفس الدرجة التي شعر بها الأوروبي أو الأمريكي، وهذا جزءٌ من فلسفة اقتصادية قائمة على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.

 

والأهم من ذلك، أن الشعب الياباني يرى في التضخم المعتدل ضرورة، فمنذ سنوات والبنك المركزي الياباني يضع هدف تضخُّم 2%، ولم يتمكَّن من تحقيق هذا الهدف إلا مؤخراً؛ حيث تجاوز التضخم النِّسبة المستهدَفة، مُحقِّقاً أعلى معدل له منذ سنوات وهو 3.5%.

 

لكن حتى هذا الرقم ناتج عن ضغوط خارجية: أسعار الطاقة المستورَدَة، وضَعْف الين مقابل الدولار… لا طلب داخلي قوي. وهذا يعنى أن التضخُّم ليس نابعاً من السوق، بل مُستورَد من الخارج.

 

لعنة الاستقرار

وهنا تظهر المفارقة التي تُسمَّى “لعنة الاستقرار”؛ أن تعيش في اقتصاد مُستقِرّ لدرجة تجعلك تنسى أن الخطر قد يأتي من الركود، لا من الغلاء، والركود الصامت، في اليابان، ما يزال التهديد الحقيقي.

 

خلاصة الأمر: هل تقف اليابان على أعتاب مرحلة تضخُّم مستمر أم أنَّ هذه مجرد موجة وستنتهي؟ الجواب غير واضح، لكنَّ المؤكد أنّ اليابان تبقَى الاستثناء الدائم. ليس لأنها “أذكى” من غيرها، بل لأنها تَسير على خطٍّ متوازنٍ ودقيقٍ، اقتصاد متقدِّم، معدل السُكّان في تراجُع، مجتمع مُتحفِّظ، وسلطات نقدية عندها الجرأة على تجربة كل شيء إلا كسر ثقة الشعب.

 

في عالم يتخبّط بين ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، اليابان وكأنها في كوكب آخر لا زالت تسأل: كيف نُقنع الناس أنّ التضخُّم ليس شرّاً دائماً؟

شَارِك المَقَال