مشاركة

العالم يشهد صراعات مُعقَّدة، القارة السمراء لم تَعُد مجرد قارة غنية بالموارد، بل أصبحت منطقة إستراتيجية تتسابق عليها الدول، بينما تُثَبِّت الصين الأقدام بقوة اقتصادية هائلة، وفي الخلفية، يَقِف الاتحاد الأوروبي حائرًا، يرى نفوذه التاريخي يتآكل يومًا بعد آخر.

 

من السودان الذي تُمزّقه الحرب، إلى كنوز المعادن في جنوب القارة، ومن يورانيوم النيجر إلى أزمة فنزويلا التي تُلقي بظلالها على الجميع. كلّ هذه التوترات السياسية والعسكرية تُؤثر بشكلٍ مباشر على الاقتصاد، وتنعكس على الذهب والبيتكوين، ولذا فالمشهد مُعقَّد، متشابك، ومصيري.

 

السودان: جرح نازف في قلب إفريقيا

السودان جرح نازف في قلب إفريقيا؛ فمنذ أبريل 2023، تحوَّلت المدن إلى ساحات قتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، ونتج عن ذلك كوارث إنسانية. لكنّ خلف دخان المعارك، تدور حرب أخرى، حرب نفوذ لا تقل ضراوة.

 

الولايات المتحدة، التي ترى نفوذها يتراجع، تحاول أن تجعل من السودان خطّ الدفاع الأخير، ولذا صدرت تصريحات متتالية من واشنطن، وتم إرسال أكثر من مبعوث يجوب المنطقة، مع فرض عقوبات على أطراف النزاع. لكن هذه الجهود غير كافية، تبدو كمن يحاول إطفاء حريق هائل بكوب من الماء. والسبب أن واشنطن تفتقر إلى أدوات ضغط حقيقية على الأرض، وتكتفي بالدبلوماسية التي تتراجع أمام الصراع العسكري.

 

الدور الروسي حاضر في السودان؛ فموسكو لا تتحدَّث بلغة الدبلوماسية، بل بلغة المصالح المباشرة. التقارير تتحدث عن عرض سوداني لإنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان مقابل أسلحة واستثمارات روسية في قطاعات حيوية مثل الذهب والمعادن.  هذه ليست مجرد صفقة، بل هي تغيير لقواعد اللعبة. قاعدة روسية على البحر الأحمر تعني التحكم في شريان التجارة العالمية، وتعني الوصول المباشر إلى القرن الإفريقي والشرق الأوسط. إنه الكابوس الأكبر لواشنطن.

 

المشهد السوداني يتَّجه نحو أزمة ممتدة، أيّ حرب طويلة الأمد تتغذَّى على التدخلات الخارجية. من المتوقع أن ترفع روسيا من دعمها لأحد طرفي النزاع لضمان المصالح، الأمر الذي قد يُجْبر أمريكا على الرد، ربما عبر دَعْم الطرف الآخر أو زيادة الضغط على دول الجوار.

 

السودان، البلد الذي يمتلك إمكانيات هائلة، مرشَّح للأسف ليصبح ساحة لتصفية الحسابات بين الكبار، وقد يجد نفسه مقسمًا بحكم الأمر الواقع بين مناطق نفوذ مختلفة، تمامًا كما حدث في بلدان أخرى تمزقت بسبب الحروب بالوكالة.

 

هذا التطور، إن تم، لا يمنح روسيا موطئ قدم إستراتيجي في واحد من أهم الممرات الملاحية في العالم فحسب، بل ينقل الصراع في السودان من حرب أهلية إلى مواجهة دولية مفتوحة على أرض إفريقية. المشهد أصبح واضحًا: ضغوط أمريكية لوقف الحرب ومنع النفوذ الروسي، وإغراءات روسية لقيادة الخرطوم التي تبحث عن حليف قوي.

 

إفريقيا منجم العالم

من الصراع العسكري إلى المصالح الاقتصادية التي تشكل المحرك الحقيقي لهذا الصراع، إفريقيا ليست مجرد موقع إستراتيجي، بل هي “منجم العالم” من المعادن الحيوية والعناصر النادرة في القرن الحادي والعشرين. نتحدَّث هنا عن الكوبالت، الليثيوم، اليورانيوم، والعناصر الأرضية النادرة، التي تُعدّ أبجديات الثورة الصناعية الرابعة، وبدونها تتوقف مصانع السيارات الكهربائية، والهواتف الذكية، وحتى أحدث الأسلحة.

 

هنا تبرز الصين لاعبًا عملاقًا، وتبدو الفائز الأكبر حتى الآن. عبر إستراتيجية “الحزام والطريق”، لم تُقدّم الصين فقط قروضًا ومساعدات، بل بَنَت الجسور والموانئ والسكك الحديدية. أصبحت الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه. هذا النفوذ الاقتصادي الهائل يمنح بكين أفضلية مطلقة في الوصول إلى الموارد.

 

أوروبا، القوة الاستعمارية القديمة، استيقظت بشكلٍ متأخّر لتجد أن “حديقتها الخلفية” لم تَعُد موجودة، وتسارع الآن لتوقيع اتفاقيات “شراكة” مع دول مثل ناميبيا وجنوب إفريقيا؛ لضمان الحصول على هذه المعادن الحيوية في محاولةٍ يائسة لتأمين المواد الأولية. أوروبا تُواجِه تحديات كبرى، أبرزها تراجُع النفوذ السياسي، خاصةً في منطقة الساحل، والرفض الشعبي المتزايد للوجود الغربي، وخصوصًا الفرنسي.

 

وهنا يأتي إعلان المجلس العسكري في النيجر، أحد أكبر مُنتجي اليورانيوم، القرار جاء بمراجعة العقود وطرح المخزون للبيع في السوق الدولية، لا يمكن اعتبار ذلك مجرد خطوة اقتصادية، بل هو إعلان عن رسالة سياسية قوية، وهي الاستقلال عن المنظومة الغربية. النيجر أصبحت الورقة الرابحة بعد طرد القوات الأمريكية والفرنسية، وروسيا تقف في طابور المشترين. وهكذا، يتحول اليورانيوم من سلعة اقتصادية إلى ورقة ضغط جيوسياسية تُهدِّد أمن الطاقة لدول كبرى مثل فرنسا.

 

القوى الكبرى تتنافس بشدة على إفريقيا، المفارقة، أن الدول الإفريقية لديها خيارات، ومن المتوقع أن تزداد حدة المنافسة، وأن تستغل الحكومات الإفريقية هذا التنافس لانتزاع شروط أفضل. لكنّ الخطر يكمن في أن هذا السباق قد يزيد التوترات الداخلية، ويُحوِّل نعمة الموارد إلى نقمة؛ حيث تستفيد الطبقات الحاكمة والقوى الخارجية، بينما يعاني المواطن من الفقر.

 

سبب ضغط واشنطن على فنزويلا

من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، السياسة الدولية شبكة مترابطة. ما يحدث في فنزويلا ينعكس مباشرةً على موقف واشنطن وقدرتها على المنافسة في إفريقيا، وما يجري في فناء أمريكا الخلفي يُحدِّد إلى حدّ كبير مدى مصداقية الولايات المتحدة في بقية العالم.

 

ومن هنا يمكن فهم سبب ضغط واشنطن على فنزويلا. فالقصة تبدأ منذ وصول تشافيز ثم مادورو، حين بدأت كاراكاس تتصرَّف خارج سياق الولايات المتحدة. ومع تدهور الاقتصاد وتراجع المؤشرات الاقتصادية، سنحت واشنطن الفرصة لفَرْض عقوبات واسعة. وبينما تعلن أن الهدف دفع الحكومة نحو انتخابات نزيهة، فإن الهدف الأعمق هو استنزاف نظام يُعتبر من الأعداء، وبالطبع مَنْع روسيا والصين من تثبيت وجود قوي داخل دولة غنية بالنفط في فناء أمريكا الخلفي.

 

وهذا يقودنا إلى ملامح الأزمة داخل فنزويلا، الأزمة التي باتت تشبه إلى حد كبير ما يحدث في إيران. فكلا البلدين يملكان ثروة نفطية كبيرة، لكن يواجهان عقوبات خانقة وأزمات داخلية أنهكت المجتمع والدولة. وقد انهار اقتصاد فنزويلا بشكل غير مسبوق، وتفككت البنية الأساسية، لتصبح أيّ مساعدات خارجية مجرد حلول قصيرة لا تغير جذور المشكلة.

 

تأثير الأزمة الفنزويلية على الدور الأمريكي في إفريقيا

مع هذا الوضع، يصبح تأثير الأزمة الفنزويلية على الدور الأمريكي في إفريقيا واضح بشكل أفضل؛ لأن خسارة واشنطن هذا الملف ستضعف الموقف في دول مثل السودان والنيجر، وتُقلّل القدرة على المنافسة في سباق المعادن والموارد أمام القوى الكبرى.

 

من هذه النقطة يتضح أن كل يوم يبقى فيه مادورو في السلطة يُمثِّل هزيمة رمزية لواشنطن. فالفشل في تحقيق الأهداف في فنزويلا يُرسل رسالةً واضحةً، خاصةً إلى الدول الإفريقية، بأن النفوذ الأمريكي لم يَعُد مطلقًا، وأن هناك خيارات أخرى على الساحة الدولية. مادورو قد ينجح في الاستمرار بفضل شبكات الدعم الخارجي والاقتصاد الموازي، لكنّ الدولة نفسها يمكن أن تتآكل من الداخل، ما يجعلها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، والتداعيات هنا قد تكون إقليمية وعالمية في آنٍ واحد.

 

الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة بالجنوب السوري

إلى الشرق الأوسط حيث الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة بالجنوب السوري. هذه الانتهاكات لفتت انتباه واشنطن أخيرًا عبر دعوة من ترامب لنتنياهو لوقف هذه الأفعال. دعوة يمكن أن تُفْهَم كاهتمام أمريكي بوضع خط أحمر أمام تهور حكومة نتنياهو المستمر في الأراضي السورية، حتى لو لم تكن بتلك الحدة، لكن مجرد التحذير الأمريكي يمنح الشراكة السورية الأمريكية أهمية وقيمة، لأن واشنطن تعلم جيدًا أن استقرار سوريا في هذه اللحظات هو أمر حيوي لاستقرار المنطقة.

 

هذه الأحداث هي بمثابة تذكير بأن الصراعات الإقليمية مستمرة، لكن يمكن الحد من التأثير، وأيّ توتُّر يمكن أن يكون له انعكاسات أوسع. كما ترتبط هذه التوترات بشكل غير مباشر بتقلبات الأسواق العالمية والنفوذ الدولي، لتصبح جزءًا من الصورة الكبرى للصراعات التي تمتد من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية.

 

استمرار ارتفاع أسعار الذهب والفضة

كل هذا الصراع والتوتر، من السودان إلى فنزويلا، لا يمكن أن يبقى في نشرات الأخبار، بل يمتد إلى المحافظ المالية. في أوقات عدم اليقين السياسي العالمي، المستثمر يبحث عن الأمان، وهنا يبرز دور الذهب والفضة. هذه المعادن الثمينة لا تصدأ، فهي الملاذ الأخير حين تهتز الثقة في كل شيء آخر. فكل صاروخ يسقط في سوريا، وكل توتر في بحر الصين الجنوبي، وكل خبر عن قاعدة روسية جديدة، يمثل دفعةً صغيرةً لبريق الذهب.

 

يستمر الذهب والفضة في لعب الدور التقليدي نفسه. في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي والمخاوف من الركود، يزداد بريق هذه المعادن، ويتحرك الذهب بهدوء وثقة؛ ليبقى درعًا ضد تقلبات الأسواق. أما الفضة، فتستفيد من الدور المزدوج؛ ملاذ آمِن، وفي الوقت نفسه معدن صناعي حيوي، خاصةً في تقنيات الطاقة الخضراء، ليعطيها دفعة إضافية كلما اتجه العالم نحو مستقبل أكثر استدامة.

 

على الجانب الآخر، نجد أن البيتكوين تشهد حالة من الترقب. بعد موجة صعود قوية، دخلت السوق في مرحلة تذبذب؛ بدأت تظهر علامات الإرهاق والضغوط من خلال حركات بيع من المستثمرين القدامى. المعركة الآن تدور بين الخوف من تصحيح سعري قادم، والطمع في تحقيق قفزة جديدة. القرار القادم للفيدرالي الأمريكي بشأن الفائدة سيكون البوصلة التي قد تُحدِّد مسار “الذهب الرقمي” في الفترة المقبلة، إما أن يستعيد البيتكوين القوة السابقة أو يدخل في فترة ركود.

 

كل هذه الأحداث من صراع النفوذ في إفريقيا، إلى الانهيار البطيء في فنزويلا، وتقلُّبات الأسواق الرقمية، وبريق الذهب، هي في فصول مختلفة في نفس الرواية: عالم يتغير، ونظام قديم يتداعى، ونظام جديد لم تتضح معالمه بعد.

 

في هذا العالم الجديد، تحاول أمريكا استعادة زمام المبادرة، وروسيا تستغل الفراغات الأمنية والسياسية، والصين تبني النفوذ بهدوء وصبر عبر الاقتصاد، وأوروبا تكافح للحفاظ على ما تبقَّى من مكانة. أما الدول الإفريقية، فتقف في المنتصف، تحاول تحقيق أقصى استفادة من هذا التنافس، لكنّها تُواجه في الوقت نفسه خطر التحوُّل إلى مجرد ساحة لتصفية الحسابات بين الكبار.

 

مشاركة