في سبعينيات القرن العشرين، تحوَّلت صناعة السيارات إلى رمزٍ لصراعٍ اقتصاديٍّ صامتٍ بين الولايات المتحدة واليابان، حيث لم تكن “تويوتا” و”هوندا” مجرد ماركات يابانية، بل أدوات اختراق لأكبر سوق استهلاكي في العالم.
وقد ظهر هذا تأثير هذا الصراع في أرقام التصدير بعدما نجحَت السيارات اليابانية في اختراق السوق الأمريكية تدريجياً خلال عقدٍ واحدٍ، حتى أصبحت من كبار مُصدِّري السيارات عالمياً، فيما بقيت أمريكا تبحث عن توازنٍ تجاريّ يُعيد ترتيب كفَّتَي الميزان.
بعد نصف قرن، وجدت بريطانيا نفسها في مُفتَرق مُشابِه، بعدما تأثرت صادراتها من السيارات إلى الولايات المتحدة بشكل كبير بالتطورات التجارية الأخيرة، لا سيما فرض الرسوم الجمركية. فقد أدت التعريفة الجمركية التي فرضتها واشنطن على واردات السيارات بنسبة 25% في أبريل 2025 إلى تعطيل شحنات السيارات في المملكة المتحدة.
تسبب القرار الأمريكي في توقف شحنات “جاكوار لاند روفر” بشكل مؤقت لتقييم الآثار المالية. كما قامت شركات مصنعة أخرى، بما في ذلك رولز رويس وأستون مارتن، بتقييم استجاباتها لهذه الرسوم.
وسعياً منها لتدارك الخسائر الاقتصادية، دخلت لندن في مفاوضات تجارية مع الولايات المتحدة لمواجهة هذه التحديات. وأُعلن في شهر مايو 2025 عن اتفاقية تجارية، تُخفض الرسوم الجمركية الأمريكية على صادرات السيارات البريطانية من 27.5% إلى 10% على ما يصل إلى 100,000 سيارة سنويًا؛ مع العلم أن أي سيارات إضافية ستُفرض عليها رسوم جمركية بنسبة 25%. كما أُلغيت الرسوم الجمركية على الفولاذ والألمنيوم، مما سيعود بالنفع غير المباشر على صناعة السيارات البريطانية.
كان الدافع الأساسي للمفاوضات البريطانية هو انخفاض صادراتها بشكل حاد إلى الأسواق الأمريكية، بنسبة تصل إلى 55%، مقارنة بالعام 2024 الذي شهد تصدير 106,000 سيارة. كذلك، انخفاض إنتاجها بنسبة 33% في مايو، للشهر الخامس على التوالي. ووفقًا لأرقام جمعية مصنعي وتجار السيارات (SMMT)، يُمثل هذا أدنى أداء شهري لبريطانيا منذ عام 1949.
تاريخياً، شكَّلت صناعة السيارات في بريطانيا أحد أعمدة الاقتصاد الوطني؛ حيث وصلت ذروة التصدير إلى أكثر من 1.6 مليون سيارة في عام 2016، وكانت السوق الأمريكية حينَها من أبرز المستوردين.
ومنذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، فقدتْ بريطانيا مظلةَ الاتفاقات التجارية الجماعية، واضطرت إلى إعادة التفاوض على شروط تجارية بشكلٍ منفصلٍ مع كلِّ دولةٍ. كما أصبحت الصادرات البريطانية إلى أوروبا تُواجِه عَراقيلَ جمركيةً. كما لم تصل محاولات لندن توقيع اتفاق تجارة حُرَّة مع الولايات المتحدة منذ العام 2021، إلى نتائج حاسمة.
علاوة على ذلك، وجهت الرسوم الأمريكية ضربة قاسية إلى عدد السيارات المُصدَّرة من بريطانيا إلى أمريكا في الربع الأول من 2025، والتي لم يتجاوز 52 ألف سيارة. يضاف إلى ذلك، دخول قوانين أمريكية جديدة حَيِّز التنفيذ، أبرزها قانون خفض التضخم (IRA)، الذي يَمنح حوافزَ ضريبيةً للسيارات المُصنَّعَة داخل أمريكا أو في دول تربطها بها اتفاقات تجارية حُرَّة، والتي لا تُعد بريطانيا من ضمنها، ممَّا يَجْعل سياراتها أقلَّ جاذبيةً من حيث التكلفةُ للمستهلك الأمريكي. في المقابل، تحوَّلَت شركات مثل “BMW” و”هوندا” إلى التصنيع في ولايات أمريكية؛ للاستفادة من تلك الحوافز، بينما ظلت المصانع البريطانية تعتمد على التصدير من أرضها دون حماية.
ما تواجهه صناعة السيارات البريطانية لا يُمكن عَزْلُه عن صورةٍ أكبر تتعلَّق بإستراتيجية البلاد الصناعية ما بعد البريكست. فمثلاً، انخفضت صادراتها من السيارات إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 22.5% في مايو الماضي، نتيجة استمرار تعقيدات التبادل التجاري وتباطؤ اقتصادي عام في منطقة اليورو.
إلى جانب ذلك، ما حدَث مع شركة “نيسان” التي أعلنتْ في أبريل 2025 عن تقليص إنتاجها في مصنع سندرلاند البريطاني لصالح مصنعها في إسبانيا، وهو ما يُعدّ مؤشراً خطيراً على موقع بريطانيا على خارطة الصناعة الدولية.
المُفارَقَة أن بريطانيا التي كانت يوماً مَهْدَ الثورةِ الصناعيةِ، تَجِد نفسَها اليومَ تُصارِعُ للحفاظ على مَوْطِئ قَدمٍ في قطاع كانت رائدةً فيه، بسبب الخَلَلُ الحاصل في السياسات وغياب الاتفاقيات الإستراتيجية، والتردُّد في استقطاب سلاسل التوريد، والارتباك في توجيه الاستثمارات الصناعية ما بعد البريكست.
واليوم، يُعدّ السوق المحلي البريطاني أكبر عميل لصناعة السيارات، لكن هذا الأمر أيضاً غير مضمون بعد تصريحات محافظ بنك إنجلترا عن مواجهة البلاد انخفاضًا في التوظيف وركودًا في الأجور.
لكن لا يزال هناك قدراً من التفاؤل يحيط بالصناعة، بعدما أبدت جمعية مصنعي وتجار السيارات أملها في أن يساعد توقيع اتفاقيات تجارية جديدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند، والإجراءات السريعة لخفض تكاليف الطاقة، واتخاذ تدابير إضافية لتنشيط الطلب المحلي خاصةً على السيارات الكهربائية، في عودة بريطانيا تدريجياً إلى قائمة أكبر 15 دولة مُصنّعة للسيارات؛ علماً بأنها خرجت من هذا النادي عام 2019.
لا تزدهر الصناعات إلا وفق سياسات واتفاقيات تجارية توفر الحماية لها عند التعرض للصدمات السوقية. وفي حالة بريطانيا، فإن صناعة السيارات تمر بمرحلة شديدة الخصوصية تتطلب إبرام اتفاقيات شراكة تجارية مَرِنة، إضافة إلى تعزيز قدرتها التنافسية في سوق مثل الولايات المتحدة. لذا، لا يصح النظر إلى تراجُع صادرات السيارات كأمر عارضٍ بل هو مُؤشر على بداية خروجٍ تدريجيٍّ من المُنافسة الدولية في هذا القطاع الحيوي.