في عام1917 انطلقت الثورة البلشفية في روسيا، سقط فيها نظام القيصر نيقولا الثاني، وهو آخِر القياصرة الذين دام حكمهم ثلاثة قرون، وتأسست روسيا الجديدة على يد البلاشفة، بقيادة لينين وتروتسكي .Lenin and Trotsky
أثر الثورة كان كبيرًا جدًّا، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا؛ فعسكريًّا نتج عنها خروج روسيا من الحرب العالمية الأولى. وسياسيًّا، مهَّدت لتأسيس الاتحاد السوفييتي. واقتصاديًّا كانت بداية ظهور الاقتصاد الشيوعي.
خلال أيام، انهار كل شيء: السلطة، الجيش، الكنيسة، وحتى فكرة المِلْكِيَّة سقطت. والشعارات التي كانت تُهْمَس في الأزقة تَحوَّلت إلى أوامر تُلْقَى من فوق المنصات.
الشيوعية بدأت بفكرة
هذا الحدَث، يسرده بالتفصيل الكاتب الصحفي جون ريد في كتابه “عشرة أيام هزَّت العالم”. يقول: “لم يكن مجرد انقلاب عسكري أو تمرُّد شعبي؛ بل هي صدمة هزَّت أساس النظام القديم، وأطلقت سلسلة تغييرات عميقة.
جدير بالذكر أن “ريد” صحفي شهد الثورة، -وكتب تفاصيل تلك الأيام العشر التي قلبت موسكو رأسًا على عقب؛ بدايةً من مواجهات الشوارع إلى قرار القضاء على الحكم المؤقت- يشرح كيف تحوَّل الأمل إلى فِعْل، وكيف يمكن للأفكار أن تُغيِّر مسار التاريخ؛ فالشيوعية بدأت بفكرة، وانتهت بانقلاب كبير ترك أثره على العالم كله.
آثار الثورة البلشفية
آثار الثورة البلشفية لم تقتصر على روسيا فقط، بل أثَّرت على العالم كله؛ فقد شهد القرن العشرون نماذج اقتصادية جديدة، وأصبحت فكرة أن الدولة تتحكّم في كل شيء موضع مناقشة. وبعد روسيا، انتشرت الفكرة في كثير من الدول، البعض منها نجح، والآخر فشل.
في الصين مثلًا، تبنَّى “ماو تسي تونغ” النموذج السوفييتي، وحوَّل الزراعة والصناعة إلى مِلْك للدولة، وطرح سياسات اقتصادية أنقذت الصين.
وفي كوبا، وتحديدًا في عهد فيديل كاسترو وتشي جيفارا، صارت رمزًا للثورة الاشتراكية في أمريكا اللاتينية.
أما كوريا الشمالية، فقد حوَّلت البلشفية إلى عقيدة مُغلَقة تُقدِّس الزعيم وتُؤمِّم كل شيء باسم الاكتفاء الذاتي.
وفي دول أوروبا الشرقية -من بولندا وألمانيا الشرقية إلى المجر وتشيكوسلوفاكيا-، فرضت موسكو سيطرتها عليهم بالقوة.
من رحم تلك الأيام خرج الاتحاد السوفييتي، القوة العظمى التي نافست الغرب لعقود طويلة. مشهد الاقتصاد الروسي تغيَّر من إقطاعي يعتمد على النبلاء والمزارعين إلى نظام مركزي تسيطر عليه الدولة. المصانع أصبحت مملوكة للحكومة، والفلاح صار جزءًا من خطة اقتصادية مرسومة.
الاقتصاد المُوجَّه ونظرية تأثير الفراشة
مع الوقت، انتقلت فكرة “الاقتصاد المُوجَّه” إلى الصين، وكوبا، وكوريا الشمالية، ودول أوروبا الشرقية. كل دولة أخذت من التجربة ما يناسبها، لكنّ النتيجة كانت واحدة: ثمن باهظ تدفعه الشعوب مقابل العدالة الاجتماعية الموعودة.
البلشفية لم تكن مشروعًا سياسيًّا فقط، بل كانت أيضًا ردّ فِعْل على الجوع، والحرب، والتفاوت الطبقي. وهنا تكمن الخطورة. فعندما يتراكم الفقر، ويفقد الناس الثقة بالنُّخَب الحاكمة؛ تكفي الشرارة الصغيرة لإشعال ثورة. وهو ما يسمى في نظرية الفوضى بـ”تأثير الفراشة”، وهي تأثيرات صغيرة في البداية تؤدي لنتائج مستقبلية كبيرة وغير متوقّعة.
من موسكو سنة 1917، إلى إضراب باريس سنة 1968، المشهد يتكرر بأشكال مختلفة. أفكار العدالة والمساواة والحرية تتحوَّل لمطالب شعبية، ثم لحراك جماهيري، ثم لحالة فوضى أو بناء جديد. والتاريخ يقول: “إن الثورات لا تموت، لكنّ شكلها يتغير مع الزمن”.
الثورة البلشفية كانت اختبارًا كبيرًا لفكرة أن الشعب يمكن أن يُغيِّر النظام بالكامل، بمعنى تغيير وليس ترميمًا. ومنذ ذلك الحين، صار العالم منقسمًا بين نظامين: الرأسمالي والاشتراكي. وبهذا الانقسام، تشكَّلت ملامح الحرب الباردة، التي لم تكن حرب جيوش بقَدْر ما كانت حرب أفكار واقتصادات. أمريكا مثَّلت الحرية الفردية والسوق المفتوح، بينما الاتحاد السوفييتي قدَّم نفسه صوتًا للطبقة العاملة ضد الاستغلال.
عندما يكون الواقع أعقد
مع مرور الوقت، صار واضحًا أن النظام الذي وعَد بالمساواة، تحوَّل إلى سلطة مُغلَقة تُمارِس القَمْع باسم الشعب. صارت الفكرة التي وُلِدَت من الثورة سلاحًا بيد الدولة، تُكمِّم الأفواه باسم المصلحة العامة. ومع ذلك، ظلت الرمزية حية: فكرة أن التغيير ممكن، وأن القوة ليست دائمًا مع النُّخَب.
اليوم، آثار الثورة البلشفية تنعكس على سياسات روسيا الحديثة؛ فالدولة التي كانت تقود الشيوعية صارت اليوم تستخدم القومية سلاحًا جديدًا. بوتين مثلًا، يحاول الجمع بين صورة روسيا القيصرية وعراقة الاتحاد السوفييتي. وروسيا الحديثة تتعامل مع ماضيها الثوري كجزء من الهوية السياسية بشيء من الخوف والحنين معًا.
الثورات الكبرى لا تنتهي
الثورات الكبرى لا تنتهي، تنتقل من شكل إلى شكل، ومن سلاح إلى آخر. الثورة البلشفية كانت بالسلاح والبيان، أما اليوم فالثورات تُدَار بالهاشتاغ، والمنصات الرقمية، والاقتصاد نفسه. والنتيجة: أن الناس ما زالت تسعى للعدالة، لكنّ الوسائل تغيَّرت.
مع كل تجربة، يتكرر السؤال بصيغة جديدة: هل التغيير الجذري يمكن أن يبني دولًا أقوى، أو يدمّرها لتبدأ من الصفر؟ التجربة الروسية تقول: إن الثمن كان باهظًا، لكنّ الأثر التاريخي لا يمكن إنكاره؛ لأن العالم قبل 1917 غير العالم بعدها.
خلاصة الأمر: الثورة البلشفية لم تكن حدثًا سياسيًّا فقط؛ بل كانت نقطة تحوُّل في فَهْم الإنسان للسلطة، والاقتصاد، والمجتمع.