إذا كان في جيبك دولار أمريكي وما يقابله من عملتك المحلية فبالتأكيد ستنفق الأخيرة وتحتفظ بالدولار. فالعملة الأضعف والأقل قيمة “الرديئة” منعت تداول العملة الأعلى قيمة “الجيدة” في السوق. هذا ما يطلق عليه “النقود الرديئة تطرد الجيدة من السوق”. في الحقيقة تعود العبارة للسير البريطاني توماس جريشام المستشار المالي لملكة إنجلترا في القرن السادس عشر. والذي كان منوطاً بوضع أسس للعملة المحلية. فتوصل لعبارته الشهيرة “النقود الرخيصة تطرد النقود الغالية من التداول”. والتي تحولت لـ قانون جريشام: النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول.
يستند قانون جريشام على أنه إذا ما صدرت نقود جديدة تضم كمية من المعدن الخالص (الذهب مثلا) أقل مما تشتمل عليه النقود القديمة المساوية لها في القيمة الاسمية. فإن القديمة (الجيدة) ستختفي لاكتنازها من قبل الأفراد أو لصهرها. لأن قيمتها كسبيكة أعلى من قيمتها كنقود وستبقى الجديدة (الرديئة).
من جهة أخرى وقبل جريشام بأكثر من قرن. أشار العلامة الإسلامي المقريزي إلى النقود الرديئة والجيدة في دراسته للعلاقة بين الأسعار ومستويات السيولة في السوق. وتوصل إلى أن “النقود الرديئة” أي المصنوعة من المعادن زهيدة التكلفة مثل النحاس والحديد تطرد النقود المسكوكة من المعادن النفيسة مثل الذهب والفضة.
أرجع العلامة المقريزي السبب إلى أن طرح النقود المعدنية يرفع من الأسعار الفعلية لمعدني الذهب والفضة في السوق بما يفوق أسعار الصرف المحددة للعملة المعدنية. وهذا ما يدفع الأفراد إلى اكتنازهما وتخزينهما والاكتفاء بالتبادل التجاري بالمعادن الرخيصة.
استنبط المقريزي القانون ضمن تحليله للمجاعة التي ضربت مصر في زمانه. حيث لاحظ تراجع النقود الذهبية “الجيدة” من التداول تاركة المجال للنقود النحاسية “الرديئة”. والسبب هو أن ارتفاع الأسعار خفض القيمة الشرائية للنقود. وشاع استخدام الذهب والفضة في صناعة الحلي والمشغولات.
شاعت النماذج التطبيقية لقانون جريشام في القرون الوسطى وخاصة عند اضطراب الأحوال الاقتصادية. حيث كان الحكام يصدرون فئات محددة من النقود بأوزان مختلفة أقل من أوزانها القديمة المتداولة في السوق. حتى يتسنى لهم إعادة صهرها واستخدامها كسبائك ذهبية مثلا تباع بقيمة أعلى من قيمتها الاسمية.
ينطبق قانون جريشام كذلك في حالة طرح نقود ورقية رخيصة للتداول بجانب نقود معدنية تحتوي على نسبة كبيرة من المعدن الخالص. فإن الأولى (الورقية) تطرد الثانية من التداول في السوق. وشاعت هذه الحالة في الحرب العالمية الأولى عندما كانت النقود الذهبية تختفي كلما ظهرت إصدارات من الورق الرخيص.
حديثاً برزت هذه القاعدة في الدول ذات العملات المنهارة مثل سوريا عندما حاولت حكومة النظام ضخ الدولار لدعم الليرة في 2014 و 2015م. لكن هذا الأمر زاد الضغط على الليرة حيث لجأ المواطنون لتخزين الدولار كعملة احتياطية مقابل المبالغة في إنفاق الليرة.
قبل سوريا قامت كندا وأمريكا بين عامي 1964 و1968م بطرح نقود معدنية من فئة ربع ونصف دولار بديلة للنقود التي كانت متداولة قبل ذلك ومصنوعة من الفضة. فكانت المفاجأة اختفاء النقود الفضية التي اكتنزها الأفراد للاستفادة من طبيعة معدنها النفيس الذي صار أعلى من قيمتها كعملة.
قانون جريشام يمكن تطبيقه في وقتنا الراهن على السلع التي تشهد ظروفا مماثلة. فتكون هناك سلع تفوق قيمتها المعنوية القيمة المادية المستحقة الدفع. فمثلا السيارات المستعملة بشكل محدود أو المعاد تجديدها تسيطر على السوق وتطرد الجديدة من التداول لأنها مساوية لها تقريباً في الجودة وأقل في السعر.
تنقل قانون جريشام بين مختلف المجالات. حيث استخدمه السياسي الأمريكي سبيرو أغنيو نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون لوصف السوق الإعلامية الأمريكية. قائلاً: إن الأخبار السيئة فيها تطرد الأخبار الجيدة.
عالم الاجتماع البريطاني غريغوري باتيسون اعتبر أن قانون جريشام ينطوي على تطبيقات اجتماعية. معللاً ذلك بأنه دائماً ما تنتشر الأفكار السطحية بين الأفراد في مجتمع ما بسهولة وسرعة أكبر مقابل النظريات المعقدة والأفكار الفلسفية. أي أن الأفكار الرديئة تطرد أيضاً الجيدة من التداول بين الناس.