مشاركة

في صيف عام 1720، كانت شوارع لندن تَضِجُّ بالحماسة. الناس يَبيعون ممتلكاتهم لشراء أسهم “شركة البحار الجنوبية “South Sea Company؛ حيث كانت بالنسبة لهم استثماراً آمِناً ومنخفض المخاطر، وسمح لأصحاب الدخل المحدود بالاستثمار بها، وكانت من الشركات الرائدة حتى إنها كانت تُقدِّم قروضاً للحكومة.

 

خلال أشهر قليلة، تضاعفت أسعار الأسهم عشرة أضعاف. وفي سبتمبر من نفس العام بدأ بعض المستثمرين الكبار في سَحْب أموالهم لحاجتهم للسيولة المالية، وهو ما أدَّى لانخفاض كبير في أسعار أسهم الشركة، ولم تكن هناك آلية حقيقية للاستثمار وتداول الأسهم.

 

في لحظة واحدة، انهار كلُّ شيء. تبخّرت الثروات، واندلعت أعمال شَغَب، وتمَّ عَزْل بعض أفراد الحكومة الذين تورَّطُوا في الأزمة تحت وطأة فضيحة كبرى. هذه كانت واحدة من أُولَى فقاعات الأسواق المالية في التاريخ، وتكررت مراراً منذ ذلك الحين، فقط بأسماء مختلفة. والسؤال هنا: كيف تنشأ الأزمات المالية؟ ولماذا يُعيد التاريخ نفسه؟

 

أهم أُسس الأنظمة المالية

الأنظمة المالية تقوم على وَعْد. وَعْد بأن البنك سيُعِيد لك أموالك، وأنّ العملة التي تَحْملها لها قيمة، وأنَّ السوق يَعمل بعدالة. حين تهتزُّ هذه الثقة، ولو قليلاً، تبدأ الشُّروخ. وإذا تراكمت الشروخ دون إصلاح، تُصْبِح أزمة.

 

أزمة الكساد الكبير عام 1929؛ بدأ كلّ شيء في بورصة نيويورك، حين ارتفعت أسعار الأسهُم بشكلٍ غير مُبَرَّر. آلاف الأمريكيين اقترضوا المال للدُّخول في السوق، ظناً بأنها “لا تخسر أبداً”. وفي أكتوبر، بدأت عمليات بيع جماعية، وانهارت الأسعار. خلال أيام، خَسر السوق نحو نصف قيمته، خسرت البورصة مليارات الدولارات، البنوك أفلسَت، الشركات أغلقت. والسبب؟ مَزِيج من الجَشَع، قروض بلا ضوابط، وغيابٌ تامّ للرقابة على الأسواق.

 

ثم جاء عام 2008، وتكرّر المشهد، لكن هذه المرة على شَكْل أزمة عقارية. في الولايات المتحدة، تمّ مَنْح قروض عقارية بمليارات الدولارات لأشخاص لا يملكون دخلاً كافياً. البنوك جمعت هذه القروض في حزم مالية مُعقَّدة، وباعتها كمشتقات مربحة.

 

حين عجَز المُقترِضُون عن السداد، انهار كلُّ شيء. بنوك كبرى مثل “ليمان برازرز” Lehman Brothers  أعلنت الإفلاس، وأسواق المال حول العالَم انهارت.  وقَدَّرَت منظمة العمل الدولية أن 51 مليون شخص حول العالم فقدوا وظائفهم منذ بداية الأزمة وحتى 2009.

 

من أسباب الأزمات المالية

الأزمات المالية لا تأتي فقط من الداخل. أحياناً، تبدأ من الخارج: صدمة نفطية، حرب، جائحة. في عام 2020، جائحة كورونا لم تكن مجرد أزمة صحية، بل تسبَّبت في واحدة من أسرع الانهيارات الاقتصادية في التاريخ. خلال أسابيع، فقد 114 مليون شخص حول العالم وظائفهم.

 

من المثير أن معظم الأزمات تبدأ بنفس الطريقة: شعور عامّ بالتَّفاؤُل المُفْرِط، ارتفاع غير مُبَرَّر في الأسعار، توسُّع سريع في الإقراض، تجاهُل للمخاطر، ثم… شرارة صغيرة، قد تكون تصريحاً من بنك أو إفلاس شركة، لتتحوَّل إلى حريق اقتصادي شامل.

 

في كثير من الأحيان، تلعب السياسات النقدية دوراً مهمّاً. حين تُبْقِي البنوك المركزية على أسعار الفائدة منخفضة لفترات طويلة، يندفع المستثمرون نحو المخاطر بحثاً عن عوائد أعلى. هذا ما حدث في الفترة التي سبقت أزمة 2008، ويَحْدُث من جديد في بعض الأسواق الناشئة اليوم؛ حيث تتَّجه رؤوس الأموال نحو استثمارات عالية المخاطر.

 

التكنولوجيا، رغم مزاياها، قد تُسرِّع الانهيار. في الأسواق الإلكترونية، يُبَاع ويُشتَرى مليارات الدولارات خلال ثوانٍ. الخوف يمكن أن يَنْتَشِر بلَمْح البَصر. في 6 مايو 2010، انهارت الأسواق الأمريكية خلال دقائق بنسبة 4% ثم إلى 5- 6%، وذلك قبل أن تَرتدَّ بنفس السرعة، فيما عُرف لاحقاً بـ”الانهيار الخاطف”(Flash Crash) ، والسبب لم يكن شائعة أو كارثة، بل خطأ خوارزميات تداول آلية.

 

العملات الرقمية كذلك؟ في 2022، انهارت عملة  TerraUSDالمستقرة وكذلك عملة luna. ما أدَّى لخسارة نصف تريليون دولار من أسواق العملات المشفَّرة، في تذكيرٍ واضح بأنّ الابتكار المالي بلا رقابة قد يكون وصفةً لأزمةٍ قادمة.

 

مؤشرات على أزمة مالية مرتقبة

هناك مؤشرات مُبكِّرة تُنبّهنا إلى الخطر. من بينها: تضخُّم أسعار الأصول (منازل، أسهم، عملات) فوق معدلاتها الحقيقية، والتوسع المُفْرِط في الإقراض، وزيادة اعتماد الشركات على القروض.

 

خلاصة الأمر: الأزمات المالية لا تُولَد من فراغ. بل هي نتاج قرارات خاطئة، ونُظُم مُشجِّعة على المُجازَفَة، وغالباً تجاهل للدروس القديمة. والوقاية منها ليست مهمة الاقتصاديين فقط، بل كلّ مَنْ يُمسك بمحفظته ويُفكِّر في الغد. لذلك، إن بدا لك السوق “مضموناً”… تذكّر دائماً: الهدوء يَسْبق الانهيار.

 

مشاركة