في نوفمبر 1884 اجتمع قادة أوروبا في مؤتمر برلين لاقتسام القارة الإفريقية كما تُقسَم الغنائم، دون أن يُستَشَار شَعْب إفريقي واحد، وكأن القارة أرض بلا أصحاب.
في قاعة واحدة رُسِمَت حدود دول بمسطرة، وقُطِّعَت مجتمعات كاملة وفقًا لرؤيةٍ تَعتبر نفسها مركز العالم، وقادرة على إعادة تشكيل مقاييس جديدة للآخرين. من هنا بدأت مرحلة جديدة تُرسّخ منطقًا لا يرى الشعوب عناصر متساوية، بل موضوع يُعاد ترتيبه وإدارته من الخارج.
المفكر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- يوضح في كتاب «العالم من منظور غربي» أنّ الغرب لم يُقدِّم نفسه كقوة سياسية واقتصادية فقط، بل كمنظومة فكرية ترى الكون من زاوية المركز، بينما بقية الأطراف بعيدة عن مركز التأثير. ومع الزمن بدأ يفرض هذا المنطق فوق الجميع.
السؤال هنا: كيف نجح الغرب في ترسيخ هذه الرؤية؟
الأمر يبدأ من فكرة «المركزية الأوروبية» التي افترضت أن أوروبا هي نقطة العالم الأساسية، وأن بقية الأمم يجب أن تسلك طريقًا مشابهًا لهذا المسار. وبناءً على هذا المنطق أصبح التقدُّم يعني التشابه مع النموذج الغربي، وأصبح التاريخ يُقاس بمدى قرب الشعوب من النموذج الأوروبي. حتى مصطلحات مثل “العالم المتحضر” و”العالم الثالث” وُلِدَتْ لتقسيم البشر إلى مركز مهيمن وأطراف تابعة.
الهيمنة كمشروع أخلاقي!!
ومع تعاقُب الزمن تغيَّرت الأدوات، لكن بقي الجوهر كما هو. في القرن التاسع عشر ظهر مفهوم «عبء الرجل الأبيض»؛ هذا الشعار يَحمل فكرة استعلاء تصور الهيمنة كمشروع أخلاقي يهدف لجَرّ الشعوب المستضعَفة نحو ما يُسمَّى “التَّحضُّر”. وهكذا أصبح الغزو رسالةً، والسيطرة واجبًا “إنسانيًّا”، وأصبح الاستعمار يتقدّم بخطاب لطيف ظاهر، لكنّه قائم على الهيمنة سياسيًّا واقتصاديًّا.
بعد الحرب العالمية الثانية تبدَّل المشهد. لم يَعُد الاحتلال له وَجْه عسكري فقط، بل تحوَّل إلى سيطرة اقتصادية وثقافية. اختفت الجيوش وبقيت الشركات العابرة للحدود. وظهر صندوق النقد الدولي كقوة مُؤثِّرة داخل اقتصاد دول نامية كثيرة. باسم العولمة ترسَّخت تبعية جديدة جاءت تحت شعارات السوق المفتوحة. دول مثل البرازيل ومصر ونيجيريا دخلت منظومة التجارة الحديثة، لكن بقيت خارج دائرة القرار؛ لأن قواعد اللعبة تُصاغ دائمًا وفق رؤية المركز كما يقول المسيري.
وهكذا تحوَّلت السيطرة من احتلال الأرض إلى السيطرة فوق العقل. وأصبحت وسائل الإعلام والتعليم والسينما أدوات لغرس شعور بأن الغرب معيار الجمال والصواب. حتى مفهوم “النجاح” اكتسب طابعًا غربيًّا قائمًا فوق الفردية والإنتاجية والاستهلاك المتواصل.
السيطرة الرقمية
ثم ظهر التحوُّل الأحدث: السيطرة الرقمية؛ فبعد انتهاء الاستعمار التقليدي أصبحت البيانات بمثابة أرض جديدة للهيمنة. شركات مثل مايكروسوفت وجوجل وميتا بنت نفوذًا عالميًّا بناءً على معرفة ومعلومات دقيقة. بحيث أصبحت الخوارزميات اليوم بديلًا للجيوش، وكذلك المعلومة غدت مواد خام تُستخرج وتُستغَل.
لم ينتهِ الأمر هنا. البيئة والمناخ دخلت ضمن هذه الرؤية. قضية المناخ أصبحت تُستعمل كأداة ضغط سياسي واقتصادي ضد الدول الفقيرة. وبالرغم من أنّ أغلب الانبعاثات تَصْدر من الدول الصناعية، إلا أن القيود البيئية تُفْرَض غالبًا فوق الدول التي تحاول النهوض. وهكذا لم تَعُد القضية فقط حماية للطبيعة بل حماية لبنية القوة العالمية.
الازدواجية الأخلاقية الغربية
مع هذه التطورات أصبحت الازدواجية الأخلاقية سمة مركزية في الخطاب الغربي. يتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية، بينما يزود أنظمةً قمعية بالسلاح، ويتجاهل انتهاكات واضحة، إن كانت تُحقِّق مصالحه. الحرب في العراق والموقف من فلسطين أمثلة صارخة، عندما تتحوَّل القِيَم إلى أدوات سياسية فالأمر لا يحتاج إلى توضيح.
التأثير لم يقتصر على السياسة فقط، بل ظهر في الفكر والاقتصاد. الاقتصاد الذي كان وسيلةً لتحسين الحياة أصبح غاية مستقلة؛ فتراجَع البُعْد الأخلاقي أمام منطق الربح، وتحوَّل الإنسان إلى عنصر داخل حسابات السوق. وبدأت الطبقة الوسطى التي كانت أساس المجتمع الحديث تتراجع حتى داخل أوروبا وأمريكا، مما جعل الفرد يعيش تحت ضغط متواصل.
حرية بلا جوهر
يبقى السؤال: هل هذه حرية؟ ربما، حين يتحوَّل الإنسان إلى تابعٍ لمنظومة لا ترى إلا الربح، تصبح حرية بلا جوهر. داخل هذا الواقع ظهرت الدولة الحديثة كحارس للنظام بدل أن تكون حارسًا للفرد. أصبحت التكنولوجيا وسيلة رقابة لا أداة خدمة. بيانات الناس، تحرُّكاتهم، وميولهم أصبحت تحت المراقبة. فهل مَنَحَت هذه التقنيات حرية أوسع؟ أم أنها غيَّرَت شَكْل القيد فقط؟
الشرق الأوسط على الدوام يُنْظَر إليه كمخزن موارد، النظرة اليوم تغيَّرت، وأصبح “مساحة اضطراب” تحتاج إلى ضَبْط. لكنّ كلّ تدخُّل جديد يُنْتِج مزيدًا من التفكُّك. من سايكس-بيكو إلى العراق وسوريا، لم يتبدَّل المنطق، وإنما تغيَّرت اللغة فقط.
النتيجة أن الرؤية الغربية للعالم صنعت شبكةً ممتدةً من السيطرة تمتد من الاقتصاد إلى الثقافة ومن الجغرافيا إلى البيانات. وهكذا يظهر أن «العالم من منظور غربي» ليس فكرة تجريدية بل منظومة حاكمة تُحدِّد مَن يمتلك الخطاب ومَن يُعِيد تعريفه.
هل يمكن بناء منظور مغاير؟
في الختام يطرح الدكتور المسيري سؤالًا محوريًّا: هل يمكن بناء منظور مغاير؟ منظور لا يَقِيس ذاته بمعايير قوة أخرى ولا يخضع لمركز واحد؟ البداية ممكن تكون في إعادة تعريف الذات انطلاقًا من التجربة، والتاريخ والموقع داخل عالم يتشكَّل من جديد.
خلاصة الأمر: حاول الغرب خلال قرون طويلة رَسْم صورة لنا من خلال رؤيته، والتعبير بلُغته، والقياس بمعاييره. تغيَّرت المصطلحات من “شرق غامض” إلى “شرق مُتخلّف”، لكنّ الجوهر بقي واحدًا؛ مركز مقابل هامش.
وربما حان الوقت لبناء تصوُّر فكري للشرق ينطلق من التجربة العربية لا من عدسة الآخر؛ لأن مَن يقرأ نفسه بعين غربية سيبقى دائمًا مجرد تابع، لا يعرف ذاته ولا يعرفه أحد.