مشاركة

في صيف عام 2002م، ضربت المجاعة واحدةً من أفقر دول العالم: مالاوي، وهي دولة واقعة في قلب إفريقيا جنوب الصحراء. في القرى البعيدة، كان المشهد مؤلمًا: أطفال يتغذون على أوراق الشجر، وأُسَر تبيع أوانيها البسيطة لتشتري قليلًا من الذرة.

 

لم تكن المجاعة ناتجةً عن حرب أو حصار، بل عن مزيج من سوء الإدارة، وغياب الدعم الدولي الذي يعمل على حلّ الأزمة؛ الدعم المُقدَّم خلال الأزمة لا يكفي لحلّ الأزمة، وإنما يساهم فقط في تأجيلها.

 

الفقر ليس قصة أرقام مجردة

العالم شاهَد الصور عبر نشرات الأخبار، لكنّه سرعان ما انشغل بأزمات أخرى. تلك اللحظة كانت تذكيرًا صارخًا بأن الفقر ليس قصة أرقام مجردة، بل هو حياة يومية لملايين البشر محاصرين في دائرة لا تنكسر.

 

في عام 2000م، وبحلول الألفية الثالثة، اجتمع قادة العالم في الأمم المتحدة ليطلقوا ما سمي بالأهداف الإنمائية للألفية؛ كان أبرز تلك الأهداف هو القضاء على الفقر. في تلك اللحظة بدا الأمر وكأنه نقطة تحوُّل تاريخية؛ العالم المتقدّم يَعِدُ بمُسَاندة الأشد فقرًا للخروج من دوامة البؤس.

 

الخبير الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس Jeffrey D Sachs، في كتابه “نهاية الفقر The End of Poverty”، أعطى دفعةً جديدةً لهذا الحلم. كان يرى أن الفقر ليس قَدَرًا محتومًا… بالعكس، يمكن كَسْره من خلال استثمارات ذكية في الصحة والتعليم والبنية التحتية.

 

ساكس وصف الوضع بـ”مصيدة الفقر”، وقال: إن هذه المصيدة يمكن أن تكسر إذا حصلت الدول الأكثر بؤسًا على دفعة قوية من المساعدات والاستثمارات.

 

إمكانية كسر دائرة الفقر

من الأمثلة المهمة على إمكانية كسر دائرة الفقر: الصين التي تتصدَّر الصورة. من أواخر الثمانينيات، بكين بدأت إصلاحات اقتصاديةً: فتحت الأسواق، شجّعت الاستثمارات، وضخَّت سياسات هائلةً في التصنيع والبنية التحتية. والنتيجة أنه في أربعين سنةً فقط. أكثر من 800 مليون إنسان خرجوا من الفقر.

 

هذه القفزة لم تكن مجرد حكاية نموّ اقتصادي، لكن كان لها تأثير مباشر على حياة الناس: معدلات التعليم ارتفعت، الرعاية الصحية تحسَّنت، والبلد نفسه تحوَّل لثاني أكبر اقتصاد في العالم. تجربة الصين دليل على أن الفقر يمكن تجاوزه بالسياسات الصحيحة والاستثمار طويل الأجل.

 

لكن الصورة ليست واحدةً، في إفريقيا ما يزال الملايين يعيشون بأقل من دولارين يوميًّا. أمراض مثل الملاريا والإيدز تفتك بالمجتمعات، والبنية التحتية ضعيفة، والحروب والنزاعات تُعطِّل التنمية.

 

ساكس Sachs يرى أن هذه المنطقة تحديدًا عالقة في “مصيدة الفقر”: الإنتاج الزراعي منخفض، الصحة متدهورة، والمدخرات معدومة، بصورة تمنع أيّ استثمار محلي من الانطلاق.

 

إنجازات ضخمة في تقليص الفقر

الحل يكمن في “دفعة أولى” من العالم الغني: استثمارات ضخمة في اللقاحات، التعليم، والطرق. بعدها، تدور عجلة النمو ذاتيًّا. لكن التجربة لم تكن بهذه البساطة دائمًا. الدفعة لم تكن دائمًا فعَّالةً؛ إذ اصطدمت بالفساد، وضعف المؤسسات، وتقلُّب أسعار السلع الأساسية.

 

الهند أيضًا حقَّقت إنجازات ضخمة في تقليص الفقر، لكنها ما زالت تُواجه فجوةً هائلةً بين المدن المزدهرة والأرياف الفقيرة. ملايين الهنود انتقلوا إلى الطبقة الوسطى، لكنّ ملايين آخرين ما زالوا يفتقدون إلى خدمات أساسية كالمياه النظيفة والصرف الصحي.

 

في البرازيل، ظهرت برامج اجتماعية مُبتكَرة، الفكرة كانت بسيطةً لكن مختلفة… العائلات الفقيرة تحصل على دعم نقدي إنتاجي. والنتيجة تراجُع الفقر بشكل ملحوظ. هذه البرامج ساعدت على تقليص الفقر، لكنها لم تعالج جذور المشكلة: التفاوت الهائل في توزيع الثروة ظل قائمًا.

 

لماذا لم ينته الفقر حتى الآن؟

رغم النجاحات، يظل السؤال قائمًا: لماذا لم يَنْتَهِ الفقر حتى الآن؟ الأسباب كثيرة؛ أولها الفساد وضعف المؤسسات وما ينتج عنه من تبخُّر الأموال في شبكات الفساد بدلاً من وصولها للمحتاجين.

 

وثانيها: النزاعات المسلحة: من جنوب السودان إلى ليبيا واليمن، الحروب تكسر أيّ فرصة للتنمية.

وثالثًا: النظام الاقتصادي العالمي نفسه؛ فهناك دول فقيرة تُصدّر المواد الخام وتستورد سلعًا مصنعةً، فتبقى دائمًا في موقع التبعية.

وأخيرًا، التغيُّر المناخي: جفاف وفيضانات تضرب المجتمعات الأضعف، وتهدد الأمن الغذائي لملايين البشر.

 

حتى مع انخفاض معدلات الفقر المدقع عالميًّا، برزت قضية جديدة: اللامساواة. ففي حين يعيش عدد أقل من الناس تحت خط الفقر، يتكدَّس جزء هائل من الثروة في أيدي قلة من الأفراد. تقارير “أوكسفام” تشير إلى أن 1% من أثرياء العالم يملكون ثروةً تفوق ما يملكه 95% من سكان العالم.

 

هل يمكن الاحتفال بالقضاء على الفقر؟

هذا الوضع يطرح سؤالًا: هل يمكن الاحتفال بالقضاء على الفقر إذا كان النظام الاقتصادي يُنْتِج تفاوتات هائلةً تهمش الملايين؟ هنا يصبح النقاش أكثر تعقيدًا: ليس فقط كيف نخرج الناس من الفقر، بل أي نوع من المجتمع نريد بناءه بعد ذلك.

 

إذن، الدروس المستفادة هي أن السياسات مهمة، ولكنّ النمو الاقتصادي وحده لا يكفي. يجب أن يوازيه استثمار اجتماعي في التعليم والصحة. فالتجارب الناجحة كلها بدأت بتركيز على التعليم الابتدائي والرعاية الصحية. وبدون مؤسسات شفافة وقضاء مستقل، تضيع المساعدات وتهدر الجهود. كما يجب التركيز على التكامل العالمي؛ فلا يمكن أن يُتْرَك الفقر لدول بعينها؛ لأنه مرتبط بالاقتصاد العالمي كله.

 

عندما كتب جيفري ساكس Jeffrey D Sachs كتابه هذا، كان مليئًا بالأمل بأن الفقر المدقع يمكن أن يصبح من الماضي خلال جيل واحد. بعد عقدين، تحققت إنجازات مهمة: مئات الملايين خرجوا من دائرة البؤس، خصوصًا في آسيا. لكن في المقابل، ما زالت مناطق بأكملها غارقةً في الفقر، واللامساواة تتسع، والأزمات الجديدة كالمناخ والحروب تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

 

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل “نهاية الفقر” هدف يمكن الوصول إليه فعلاً، أم أنه سيظل شعارًا طموحًا يلاحقنا أكثر مما نحققه؟ ربما الأهم أن نُدرك أن الفقر ليس قدرًا، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية. وإذا كان في مقدور العالم أن ينهيه، فإن العائق الأكبر ليس نقص الموارد، بل نقص الإرادة.

مشاركة