في كل مرة تهتز خريطة العالم، نتذكَّر أن القوة لا تتحرَّك صُدفةً، بل تتحرَّك عندما يُقرّر طرفٌ ما أن الوقت حان لإعادة رسم الحدود. قبل أكثر من قرن، وقف الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت وقال عبارته الشهيرة: “تحدَّث بهدوء، واحمل عصًا غليظة”.
اليوم، يبدو أن العصا تتحرَّك من جديد، وهذه المرة باتجاه فنزويلا. في خطوةٍ غير مسبوقة وصف وزير الخارجية الأمريكي الرئيس الفنزويلي مادورو بأنه قائد لمنظمة “كارتيل” الإرهابية. وهي خطوة تفتح باب سؤال خطير: ما الذي تستعد له واشنطن؟
في كاراكاس بعد الإعلان الأمريكي تم اعتبار فنزويلا دولة مُعرَّضة للاستهداف وفق تبرير قانوني جديد، وفي وقتٍ تتحرَّك فيه بوارج أمريكية نحو البحر الكاريبي، يصبح الأمر أكبر من خلاف سياسي بين دولتين.
تفكُّك شرعية النظام العالمي
في كتابه “بعد الليبرالية” تنبَّأ الكاتب الأمريكي إيمانويل فالرشتاين Immanuel Wallerstein بتفكك شرعية النظام العالمي قبل عقود، وتنبَّأ بمرحلة صراع طويلة تمتدّ من 2025م حتى منتصف القرن، وهي الفترة التي نعيش بدايتها الآن.
الكتاب يقول: إن العالم سيدخل عصرًا بلا سلام حقيقي، وأن الهيمنة الأمريكية ستفقد القدرة على ضبط المشهد الدولي. تحدث الكتاب كذلك عن أن سقوط الاتحاد السوفييتي قد احتُفِيَ به على أنه انتصار نهائي لليبرالية، ولكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا؛ حيث كانت علامة على انتهاء عصر كامل ودخول مرحلة “بعد الليبرالية”؛ حيث فقدت الأنظمة السياسية القدرة على تقديم استقرار أو شرعية.
كان يرى أن القوى المهيمنة ترى أن ” كل شيء يجب أن يتغير، حتى لا يتغير شيء، وأن أزمات ستَخْلُق توترًا مفتوحًا بين قوة عالمية تبحث عن دور مفقود.
واليوم حين تُصنّف واشنطن رئيس دولة مُنتَخَب كقائد لتنظيم إرهابي، لا نجد الحدث منفصلًا عن رؤية فالرشتاين Wallerstein ، بل نراه جزءًا من لحظة اندثار للنظام العالمي القديم.
لماذا هذا التصنيف الآن؟ الاتهام الأمريكي لمادورو في إعلانٍ رسمي باعتبار رئيس فنزويلا “زعيم شبكة كارتيل “؛ لم يأتِ من فراغ، بل هو توصيف لا يقتصر على الإدانة السياسية، بل يفتح بابًا واسعًا لتدخُّل عسكري وفق قوانين واشنطن.
ما الهدف الحقيقي من هذا التصعيد؟
السؤال الذي يفتح باب النقاش هو: ما الهدف الحقيقي من هذا التصعيد؟ في نظر منتقدي ترامب، يأتي اتهام مادورو بأنه مجرد مسرحية وهمية، من تأليف الرئيس ووزير خارجيته روبيو، لإيجاد مُبرِّر مُقْنِع للإطاحة بالخصم، كما أن هذه العصابات غير موجودة أصلًا.
هذا التصعيد يزداد مع وصول رئيس هيئة الأركان الأمريكية إلى منطقة الكاريبي، في وقتٍ تتحرك فيه قِطَع بحرية قرب المياه الفنزويلية. إذن نحن لسنا أمام خطوة سياسية فقط، بل أمام حملة متكاملة، تؤدي لتداخل القانون مع النفوذ العسكري، بالإضافة لمعركة إعلامية واسعة.
فنزويلا تواجه قوة مهيمنة تحاول فَرْض شكل جديد من السيطرة داخل منطقة كانت تُعتَبر “حديقة خلفية” و”مساحة نفوذ تاريخية” لواشنطن، وهي دولة تملك أكبر احتياطي نفطي مُثبَت في العالم، ومع تراجُع الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية، يصبح الضغط جزءًا من إعادة توزيع القوة داخل النظام الاقتصادي.
الكل يعلم أن واشنطن تُنْتِج النفط الخام الخفيف، وهو جيد لصنع البنزين وليس شيء آخر. أما النفط الخام الثقيل، مثل الفنزويلي، فهو ضروري لبعض المنتجات المُصنَّعة في عملية التكرير، بما في ذلك الديزل والأسفلت ووقود المصانع، وغيرها من المعدات الثقيلة، والديزل يعاني من نقص في المعروض في جميع أنحاء العالم.
إعادة رسم جغرافيا الطاقة
في مشهد حرب أوكرانيا، وحاجة الأسواق لزيادة الإمدادات؛ لم تتمكّن الولايات المتحدة من الوصول لاتفاق مع كاراكاس، ولم تحصل على ما يضمن سيطرة كاملة على موارد الطاقة، هذه النقطة تحديدًا تُعيدنا إلى تحليل الكتاب: “حين تتراجع الهيمنة، تبدأ القوى الكبرى بمحاولات استعادة السيطرة عبر إعادة ضبط مناطق النفوذ، خاصةً المناطق التي تمتلك موارد إستراتيجية، مثل النفط”.
وبذلك يصبح تصنيف مادورو خطوة في إطار إعادة رسم جغرافيا الطاقة داخل نصف الكرة الغربي، أما بالنسبة لموقف الداخل الأمريكي، فالرأي العام الأمريكي يرفض خيار حرب جديدة.
شبكة “سي بي إس نيوز”، أجرت استطلاعًا للرأي أظهر أن غالبية الشعب الأمريكي يُعارض أيّ عمل عسكري محتمل ضد فنزويلا. التجارب السابقة تركت غضبًا واسعًا، والشارع الأمريكي لم يَعُد يتقبَّل أيّ مغامرة عسكرية لا تحمل هدفًا مباشرًا، ومع ذلك يرى البعض أن فقدان السيطرة على فنزويلا يعني تحوُّل المنطقة إلى مساحة نفوذ لخصومٍ جدد، خصوصًا الصين وروسيا.
لماذا هذا التصعيد الآن تحديدًا؟
السؤال هنا، لماذا الآن تحديدًا؟
واشنطن فشلت في إقناع الدول النفطية برفع الإنتاج في ظل أزمات عالمية خلال السنوات القليلة الماضية. سعر النفط يدخل مرحلة تقلُّب، والضغط سيؤثر على الداخل الأمريكي. أما فنزويلا، فتمتلك ورقة طاقة مؤثرة، ولا تنوي تقديم تنازل بلا مقابل، إذن التوقيت ليس عشوائيًّا، فهو توقيت يرتبط باقتصاد عالمي يدخل مرحلة تفكك.
وتستخدم واشنطن التصنيف الجديد لإعادة ترتيب المحيط الجغرافي، ولإرسال رسالة تقول: أمريكا قادرة على فرض الإرادة؛ رغم تراجع الهيمنة في النظام العالمي. اليوم عندما تتحرك واشنطن لإعادة بناء نفوذ عسكري داخل منطقة الكاريبي فهي -وفق تحليل الكتاب-، تتحرك بدافع فقدان قوة سياسية واقتصادية كانت تحقق فرض التوازن الدولي.
إلى أين يمكن أن يتجه هذا التصعيد؟
استخدام التصنيف الجديد كذريعة لضربات محدودة، ثم حصار اقتصادي أشد أو تحركات بحرية متبادلة، وطبعًا مع ضغط دبلوماسي بلا توقُّف، وربما مواجهة مفتوحة إذا شعر أحد الطرفين بأن النفوذ مُهدَّد تمامًا.
لكنّ الخطوة الأكثر خطورة هي أن الصراع لا يَحْدُث من فراغ، بل في عالم يتفكك اقتصاديًّا ونفسيًّا، وبذلك يصبح أيّ تصعيد قابلًا للتحوُّل من نزاع محلي إلى أزمة إقليمية واسعة.
بين كاراكاس وواشنطن والعالم المتغير، ما يجري اليوم بين فنزويلا والولايات المتحدة ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو علامة على عالَم يَفْقد قواعد اللعبة القديمة، ويَدْخُل مرحلة جديدة، بلا يقين، وبلا ضمانات، وبلا شرعية واضحة لقيادة واحدة.
الكتاب تحدَّث عن أن الفترة بين 2025 و2050م ستكون فترة صراع، واضطراب، وتفكُّك، وضغط بين قوًى تسعى لحفظ المواقع، وأخرى تريد حماية الواقع. وها نحن نعيش بدايات هذه المرحلة، تصنيف، تحرُّك عسكري، ردّ مضادّ، توتُّر داخل أمريكا، صراع نفوذ في محيط الطاقة، وعالم يدخل عصرًا لا يمكن التنبؤ فيه بالنهاية.
هكذا يصبح الحدث الفنزويلي ليس قصة دولة واحدة، بل فصل جديد في كتاب النظام العالمي الذي ينهار ببطء، وينتظر مَن سيكتب صفحته التالية.