تقوم تركيا ومنذ فترة ليست بالقصيرة بإعادة ترتيب علاقاتها الخارجيَّة لا سيَّما العربيَّة منها، وبذلك تَطْوي أنقرة صفحات من التَّنافس والخلاف مع عدَّة دُوَل في المنطقة، وهو ما يُفترض به أن ينعكس إيجابًا على الدُّوَل المُتصالِحَة بشكلٍ مباشرٍ، وعلى عموم دُوَل وشعوب المنطقة بشكلٍ غير مباشر، وهذه المسيرة بدأت باتِّصالات سرِّيَّة لتنتهي بتواصل علنيّ، وتُعدّ زيارة أردوغان إلى الإمارات العربيَّة المتَّحدة باكورة هذه الخطوات، وحاليًا تسعى أنقرة لتعزيز هذا المسار من خلال زيارة مرتقبة إلى السُّعوديَّة من المتوقَّع أن تتم صبيحة عيد الفطر المبارك، وكما هو مُعلَن من المقرَّر أن يناقش الرئيس التُّركيّ رجب طيب أردوغان مع العاهل السُّعوديّ الملك سلمان بن عبدالعزيز العلاقات التجاريَّة الثنائيَّة، وسبل إزالة أي عقبات تعترضها، وذلك خلال زيارته المقرَّر لها صبيحة عيد الفطر المبارك.
تُعدّ المملكة العربيَّة السُّعوديَّة إحدى الأقطاب الاقتصاديَّة في منطقة الشَّرق الأوسط، فمن خلال زيارة أردوغان فمن المتوقَّع حصول أنقرة على استثمارات بمليارات الدُّولارات خلال “زيارة العيد” المُرتقبة إلى السُّعوديَّة، تكرارًا لما حدث مع الإمارات، والتي وقَّعت معه صفقة مقايضة عملات بقيمة 4.9 مليار دولار، مع الكشف عن خطة لإنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات ومضاعفة التِّجارة الثنائيَّة؛ ومن المتوقَّع أيضًا أن تُسْفِر الزيارة عن ترميم العلاقات التجاريَّة السُّعوديَّة التي تدهورت في السنوات السَّابقة، فقد سجَّلت الصَّادرات التُّركيَّة إلى السُّعوديَّة تراجعًا من 3,2 مليار دولار عام 2019م إلى 189 مليون دولار فقط عام 2021م، بينما وفي ذات الفترة سجَّلت الواردات التُّركيَّة من السُّعوديَّة ارتفاعًا واضحًا، فارتفعت من 1,7 مليار دولار عام 2020م إلى 3 مليار دولار عام 2021م، وهو ما يعني أنَّ الميزان التجاريّ بين البلدين يَميل بشكلٍ كبيرٍ لصالح السُّعوديَّة، وهو ما يطمح أردوغان لمعالجته وإعادة التَّوازن إليه.
يرغب أردوغان أيضًا، في تقليص الدعم العربيّ لليونان ولقبرص بعملياتهما للتنقيب عن الغاز بشرق البحر المتوسط، بالإضافة إلى إنهاء حملة المقاطعة السُّعوديَّة غير الرسميَّة أيضًا لتركيا كوجهة سياحيَّة، كما سيواصل أردوغان محاولة تعزيز شراكة اقتصاديَّة بين تركيا والمملكة من خلال مقايضة العملات.
تأتي زيارة الرئيس التُّركيّ رجب طيب أردوغان في وقتٍ تُواجه فيه أنقرة تحدِّيات داخليَّة وإقليميَّة ودوليَّة مُختلفة تَحُدّ من مرونة تحرُّكها السِّياسيّ، وتحديد موقفها السِّياسيّ بدقَّة ووضوح، وتتمثَّل التَّحدِّيات الدَّاخليَّة التي تواجه أنقرة، في الانتخابات المُقبلة، والتي يسعى أردوغان لحسمها لصالحه، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصاديَّة التي تواجه البلاد، والتي قد تؤثِّر على نتيجة الانتخابات، فتعثر الاقتصاد هو ما مهَّد الطريق لوصول أردوغان نفسه للسلطة عام 2002م، وحاليًا يؤدي التَّضخُّم المتسارع إلى استياء شعبي عارم قد يكلفه منصبه؛ فالتَّضخُّم في تركيا والذي بلغ مستويات خطيرة، ففي شهر مارس الفائت سجَّل التَّضخُّم في تركيا أكثر من 60% على أساس سنويّ وهو أعلى مُعدَّل للتَّضخُّم في البلاد منذ عقدين، وهو ما أدَّى لتزايد البطالة ومُعدَّل الفقر، وهي أزمة ساهمت في تغيير سياسة أردوغان الخارجيَّة وسعيه لطيّ الخلافات مع الدُّوَل الخليجيَّة الغنيَّة كالسُّعوديَّة والإمارات، آملا في استقدام استثمارات ضخمة تساهم في تجاوز تعثر اقتصاد بلاده.
أما التَّحدِّيات الإقليميَّة، فيتصدّرها الملفَّان السُّوريّ واللِّيبيّ، والموقف التُّركيّ المتعثِّر فيهما، والتي يرغب أردوغان في إيجاد تسوية لهما تضمن المصالح الاستراتيجيَّة للدولة التُّركيَّة وتحفظ الأمن القومي لها، وأخيرًا تتمثل التَّحدِّيات الدَّوْليَّة في الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة، وما لها من تداعيات على الاقتصاد والأوضاع الجيوسياسيَّة في المنطقة؛ فمن وجهة نظر تركيا، لم تحقّق العمليَّات العسكريَّة في سوريا وليبيا والعراق الأهداف التي كانت تأملها أنقرة، كما لعبت مساعدة السُّعوديين للأكراد السُّوريين وتعاون الإمارات مع أكراد العراق على إذكاء مخاوف أنقرة، وهو ما يحاول أردوغان من خلال هذه الزيارة إيجاد حلّ لكلِّ هذه التَّحدِّيات.
وعلى الرَّغم من خطورة التَّحدِّيات الإقليميَّة والدَّوْليَّة التي تُواجه أنقرة إلَّا أنَّ التَّحدِّيات الدَّاخليَّة تبقى الأخطر في الفترة الحاليَّة لا سيَّما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيَّة، وهو ما يجعل العامل الأكثر إلحاحًا لحدوث تلك الزيارة هو الاضطراب الاقتصادي المتزايد في تركيا؛ حيث يحتاج أردوغان بشدة لجذب الاستثمارات الأجنبيَّة، وتعزيز الشراكات التجاريَّة لتحسين الظروف قبل الانتخابات العام المقبل؛ ولذلك فإنَّ استعادة العلاقات التُّركيَّة السُّعوديَّة لزخمها السِّياسيّ والاقتصادي من شأنه تعزيز واقع الاقتصاد التُّركيّ والذي بدوره سينعكس على الواقع السِّياسيّ.
جدير بالذكر أن أنقرة تقوم ومنذ عدة أشهر بترميم العلاقة مع دُوَل مجلس التَّعاون الخليجيّ، فعودة العلاقات التُّركيَّة السُّعوديَّة لا يمكن فَصْله عن جهود أنقرة في استعادة العلاقات مع باقي دُوَل الخليج العربيّ، فمنذ فترة بدأت العلاقات التُّركيَّة البحرينيَّة في التحسُّن والعودة إلى طبيعتها بالتَّوازي مع تحسُّن العلاقات التُّركيَّة الإماراتيَّة. وزار وزير الخارجيَّة التُّركيّ المنامة، واجتمع مع ولي العهد البحريني، بالإضافة إلى عقد اجتماع للجنة الاقتصاديَّة المشتركة بين البلدين في الأشهر القليلة المقبلة؛ وبالتَّزامن مع هذه الجهود كانت أنقرة تعمل على مسارٍ موازٍ لتحسين العلاقة مع الرياض، وذلك من خلال إزالة أسباب الخلاف معها الذي تأجَّج خلال فترة ثورات الربيع العربيّ وما رافقه من اصطفاف إقليميّ في المنطقة، ثم جاء اغتيال خاشقجي، ليقطع شعرة معاوية بين البلدين، ولكن ومع بدء مُؤشِّرات التَّحسُّن السِّياسيّ بين البلدين قامت تركيا بنقل قضيَّة خاشقجي للمملكة.
بالإضافة إلى ذلك، أطلقت تركيا عددًا من التصريحات الإيجابيَّة نحو المملكة تؤكّد من خلال إصلاح العلاقة بأجندة أكثر إيجابيَّة مع السُّعوديَّة، خاصةً بعد أن لاحظت تركيا أن قضيَّة خاشقجي تُستخدَم مِن قِبَل الولايات المتَّحدة للضَّغط على السُّعوديَّة للحصول على تنازلات لصالحها؛ وفي مايو 2021م، قام وزير الخارجيَّة التركيّ، مولود جاويش أوغلو، بزيارة إلى العاصمة الرياض بزخم إعلاميّ ودبلوماسيّ داخل الأوساط السِّياسيَّة السُّعوديَّة، وفي نوفمبر الذي يليه استضاف مركز المؤتمرات في مدينة إسطنبول مباحثات “رفيعة المستوى” بين تركيا والسُّعوديَّة بخصوص العلاقات الثنائيَّة بين الدَّوْلتين؛ إضافة إلى ذلك فقد ندَّدت أنقرة بالهجمات الأخيرة التي شنها الحوثيون على الإمارات والسُّعوديَّة، فكُلّ هذه الخطوات شكَّلت أرضيَّة حاضنة وداعمة لجهود ترميم العلاقات بين البلدين.
من ناحية أخرى تُعدّ أزمة الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة ومِن قبلها جائحة كورونا بمثابة أزمتين شكَّلتا تحديات كبيرة لسلاسل التوريد على مستوى العالم، ولذا أضرَّت المقاطعة السُّعوديَّة للمنتجات التُّركيَّة بالطرفين، وليس الجانب التُّركيّ فقط؛ وإن كانت الخسائر التُّركيَّة تعد الأبرز، وبالتَّأكيد، خسر رجال الأعمال والشركات السُّعوديَّة الكثير من الأموال والاستثمارات بسبب المقاطعة السُّعوديَّة غير الرَّسميَّة للمُنْتَجَات التُّركيَّة، كما أنَّ التَّطوُّرات على السَّاحة الخليجيَّة، ودخول قطر، حليف أردوغان الوحيد في المنطقة، في مصالحة مع السُّعوديَّة والإمارات والبحرين، أجبَر تركيا على إعادة العديد من حساباتها.
من جهة أخرى كانت العلاقات الاقتصاديَّة بين المملكة وتركيا قويَّة إلى حدّ بعيد، فقد بلغ حجم التَّبادُل التجاريّ بين البلدين حوالي 5.6 مليار دولار في عام 2015م قبل الخلاف السِّياسيّ بينهما، ومع قرار الحظر السُّعودي، غير الرَّسمي، على المُنتَجات التُّركيَّة في الربع الأخير من عام 2020م، حدث انخفاض كبير في التَّبادُل التجاريّ بين البلدين، وبات الميزان التجاريّ مائلًا لصالح السُّعوديَّة بشكلٍ كبيرٍ بعد التدهور الحادّ في قيمة الصَّادرات التُّركيَّة إلى السُّعوديَّة؛ لذلك فإعادة إحياء العلاقات السِّياسيَّة بين البلدين من شأنه دَعْم المُؤشِّرات الاقتصاديَّة وهو ما ينعكس على الاقتصاد التُّركيّ وعلى استقرار قيمة اللِّيرة التُّركيَّة التي تعاني منذ عدَّة سنوات من تدهور حادّ، إضافةً إلى ذلك فإنَّ إعادة العلاقات السِّياسيَّة بين البلدين قد يُمهّد لاستقطاب المستثمرين السُّعوديين إلى تركيا، وزيادة عدد السُّيَّاح السُّعوديِّين الذين يقصدون تركيا.
وبخلاف قطاع السياحة، فإن السُّعوديَّة تُعدّ من أكبر مشتري الأسلحة في العالَم، ومعظمهم من الدُّوَل الغربيَّة، وتحاول حاليًا دول الخليج في ظل الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة تنويع مُورّديها العسكريين، بما في ذلك اللجوء إلى الصين وكوريا الجنوبيَّة، مع تحسُّن العلاقات، قد تكون هناك فرصة أكبر لتركيا في سوق الخليج لتجارة الأسلحة، خاصَّة أنَّ السِّلاح التُّركيّ يَلْقَى قبولًا واسعًا في عدَّة دُوَل، كما أن المُسَيَّرات التُّركيَّة بات لها سُمْعَة جيِّدة، وهو ما تسعى تركيا لتسويقه في دُوَل الخليج وفي السُّعوديَّة على وجه الخصوص، وهو ما سينعكس إيجابًا على الواردات التُّركيَّة من تصدير السلاح.
من جهة أخرى لا تقتصر المكاسب الاقتصاديَّة على الجانب التُّركيّ، ففي المقابل، ستُحقِّق السُّعوديَّة وشركاؤها الإقليميون عددًا من المكاسب مع تلك الزيارة، أبرزها دَعْم مُؤشِّرات حلّ الأزمات المستعصية في المنطقة خاصَّة في اليمن التي تُشكِّل الأزمة الأكثر ضغطًا على السُّعوديَّة، ومن جهة أخرى فإنَّ المُتغيِّرات السِّياسيَّة في المنطقة والعالم تدفع السُّعوديَّة لعَقْد تحالفات مع عدَّة دُوَل وعلى رأسها تركيا، ومن أبرز تلك المُتغَيِّرَات سياسات واشنطن في أعقاب الحرب الرُّوسيَّة الأوكرانيَّة، ورغبتها في عقد صفقة مع إيران، ومساهمتها المحدودة في الحرب باليمن، والتَّخفيض الملحوظ للضمانات الأمنيَّة الأمريكيَّة للحلفاء بدول المنطقة، وهو ما يجعل المملكة تسعى لتنويع علاقاتها مع جهات فاعلة مثل الصين والهند وأيضًا تركيا.
إن التَّقارب بين تركيا والسُّعوديَّة سيكون أيضًا في مصلحة البلدين في المجالين السِّياسيّ والعسكري أيضًا، وفي تحقيق التوازنات الإقليميَّة، فموقف تركيا الذي يعزّز قدرات جيشها من خلال تطوير صناعاتها العسكريَّة إلى جانب السُّعوديَّة يمكن أن يساهم في تعزيز مكانة التحالف السُّعودي الإماراتي في اليمن ويساهم في حماية أمن الخليج.؛ إضافةً إلى ذلك فإنَّ من منافع إعادة العلاقات بين البلدين تمكين السُّعوديَّة من الحصول على صواريخ اعتراضيَّة لنظام الدفاع الجوي باتريوت الأمريكي الصنع، لا سيَّما في ظلّ رَفْض الولايات المتَّحدة وحلفائها الأوروبيين تزويدها بتلك الصواريخ، ولكن يمكن للمملكة شراء تلك الصواريخ من تركيا التي أثبتت فعاليتها في سوريا وليبيا والعراق؛ كما يمكن للبلدين التعاون في تطوير أنظمة الدفاع الجويّ التي وصلت فيها جهود تركيا إلى مستويات متقدّمة، بالإضافة إلى قيام المملكة بشراء الطائرات المسيرة دون طيّار، والتي تنتجها تركيا، وأثبتت فاعليَّة في ميادين الحروب.
بالإضافة إلى ذلك فإن من المكاسب السِّياسيَّة التي يمكن أن تجنيها المملكة بالتَّقارب مع تركيا، أنَّ الأخيرة لديها القدرة على العمل كقوَّة موازنة مع إيران. باعتبارها قوة إقليميَّة مهمَّة يغلب عليها السُّنَّة؛ حيث يُنظر إلى تركيا، ولا سيَّما مِن قِبَل المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، على أنها حصن قويّ ضد إيران؛ من ناحية أخرى، لدى تركيا خطة عمل شاملة مشتركة، لن تعزّز العلاقات الاقتصاديَّة بين تركيا وإيران فحسب، بل تعزز الأمن الإقليمي أيضًا؛ حيث إنَّ موقفها من برنامج إيران النووي، لا يقوّض حسابات السُّعوديَّة أو الإمارات بشأن دور متوازن يمكن لتركيا أن تلعبه مع إيران.
من المتوقَّع أن يكون العاهل السُّعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز المحاور الرئيس خلال الزيارة، لكن سيحظى وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بزيارة مهمَّة من الرئيس التُّركيّ؛ حيث إنَّ التطبيع العلاقات بين البلدين، يتطلَّب مُصالَحة مع ولي العهد، الذي حمَّلته تركيا مسؤوليَّة مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي؛ وعمومًا فقد كان من المتوقَّع أن يقوم أردوغان بتلك الزيارة في فبراير الماضي، في طريق عودته من الإمارات، لكنها لم تتم لكي تؤجل إلى صبيحة عيد الفطر المقبل، وقد تكون إشارة إلى الرَّوابط الإسلاميَّة بين البلدين، وهو ما قد يركّز عليه أردوغان أيضًا في محادثاته مع قادة المملكة.
في الواقع، قد تكون رحلة محمد بن زايد إلى أنقرة وكذلك وعد الإمارات باستثمارات بقيمة 10 مليارات دولار في تركيا والإبلاغ عن الاهتمام بالطائرات بدون طيار التُّركيَّة قد أثارت اهتمام السُّعوديين، تمامًا كما قد تكون المحادثات المباشرة للسعوديين مع إيران قد دفعت الإمارات إلى السعي نحو التقارب مع طهران؛ وبالنسبة لمحمد بن سلمان، قد تكون دعوة أردوغان إلى الرياض بدلًا من الضغط على اجتماع في الدوحة وسيلة لإصلاح العلاقات بينهما بعد قضيَّة خاشقجي؛ ولكن من جهة أخرى قد لا تتحقق بعض توقُّعات تركيا خلال تلك الزيارة، أبرز هذه التَّوقُّعات القدرة على التأثير على موقف الرياض من تنقيب قبرص واليونان عن الغاز في شرق البحر المتوسط؛ حيث يدرك محاورو أنقرة جيدًا أنها تسعى إلى استعادة العلاقات الاقتصاديَّة دون أي تنازلات من مكاسبها الجيوستراتيجيَّة في المنطقة، وهو ما يجعلهم محتفظين بتلك الورقة للنهاية.
هذا وقد اتَّسمت العلاقات بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي في العقد الأول من القرن الحالي باتفاقيات متعددة الجوانب على المستوى الإقليمي. ومع ذلك، فقد اختلفت توقُّعات كل دولة خليجيَّة بشأن شراكة استراتيجيَّة مع تركيا، وأهداف تركيا للعلاقات مع كلّ من دول مجلس التعاون الخليجي الست؛ علاوة على ذلك، وعلى الرَّغم من وجود طموحات للتعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا، لم يكن لدى تركيا خطة تعاون موحَّدة وشاملة تناسب مصالح كل من دول مجلس التعاون الخليجي، ولم تكن دُوَل مجلس التعاون الخليجي قادرة على الاتفاق على استراتيجيَّة مشتركة لبناء العلاقات معها؛ وفي هذا السِّياق، قد تكون قطر عاملًا مهمًّا في عودة تركيا لهذا المستوى من العلاقات، وذلك لسببين؛ الأول أن قطر أضافت عمقًا استراتيجيًّا إلى حسابات السِّياسة الخارجيَّة لتركيا نظرًا لموقعها الخليجي ودورها السِّياسيّ والاقتصاديّ الفريد، والثاني أنَّها تساهم في تحسين العلاقات بين تركيا وبقيَّة دول منطقة الخليج.
على سبيل التوضيح، تعمل تركيا وقطر، مع الحكومة الأفغانيَّة المؤقَّتة للتَّوصُّل إلى اتِّفاق بشأن تشغيل مطار كابول، وأعلنت الإمارات أيضًا عن نيتها المشاركة في إدارة المطارات في أفغانستان، فهل يمكن التعاون بين الأطراف الثلاثة في هذه المرحلة بهذا المشروع، أم يكون المشروع حلقة تنافس بينهم؟!
على كل الأحول يبدو أن هذا الذوبان في العلاقات الجليديَّة بين أنقرة والرياض بداية لعمليَّة سياسيَّة إيجابيَّة لهذين الخصمين الإقليميين السابقين نحو تعميق العلاقات، ولكن تعتمد المصالحة الحقيقيَّة على قدرتهما على احتواء الخلافات حول بقايا القضايا التي فرّقتهم في الماضي ومنح التَّقدُّم الاقتصادي الوقت الكافي لتقوية هذه العلاقات المهمَّة؛ وهنا لا بُدّ من التَّنويه إلى أنَّ تركيا أوَّل دولة غير خليجيَّة تُمنح مكانة الشَّريك الاستراتيجيّ لدُوَل مجلس التَّعاون في عام 2008م، وتتطلع الآن إلى عودة العلاقات لما كانت عليه بعد إزالة العقبات، لكنَّ نجاح هذه الرَّغبة يتطلَّب أيضًا أن تتخلص السُّعوديَّة من هواجسها تمامًا وألَّا تنظر إلى تركيا على أنها عدو يسعى لتدمير المملكة.
لقد بدأ عصر تخفيف التَّوتُّرات السِّياسيَّة، ولكن إذا لم يتمّ التعامل مع هذا الانفتاح بشكل صحيح، فقد تظهر فصول جديدة من التنافس، حتى مع تفاقم النزاعات السِّياسيَّة التي لم يتم حلّها؛ فنجاح التَّقارب السِّياسيّ بين البلدين يحتاج لفترة قَصيرة نسبيًّا لاختبار جدِّيَّة الطرفين، كما أنَّ نجاح هذا الأمر يعتمد على التَّقارُب التُّركيّ مع الأقطاب الإقليميَّة الأخرى، ومنها مصر، فالسُّعوديَّة ومصر يُعَدَّان من أبرز اللَّاعبين الإقليميِّين، وهما يُعدَّان في صَفّ سياسيّ واستراتيجيّ واحد، لذلك فإنَّ تقارب أنقرة من أحد هذين القطبين من شأنه الانعكاس بشكلٍ مباشرٍ على العلاقة مع الطَّرف الآخر.