شَارِك المَقَال

احتضنت الدولة التركية اللاجئين السوريين لمدة تجاوزت العقد من الزمن. وهو ما يحسب للدولة والحكومة التركية. وتعد تركيا  -على الرغم من بعض السلبيات- من أفضل البيئات التي احتضنت السوريين. اليوم بدأت تعلو أصوات تطالب برحيل السوريين عن تركيا. وهو ما يطرح تساؤلاً مهما: ماذا لو رحل السوريون؟

 

كيف استقبلت تركيا اللاجئين السوريين؟

منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011م وحتى اليوم لا يزال السوريون يحظون باستضافة جيدة نسبياً على مستوى الخدمات والمرافق والأعمال وغيرها. لكن لا يمكن إنكار فكرة أن وجود اللاجئين في أي دولة يشكل عبئاً على مواردها وضغطاً على قدراتها ومرافقها الأساسية.

 

في الحقيقة يلاحظ أن قضية اللاجئين في تركيا باتت تستخدم كورقة سياسية لتحقيق مكاسب ضد الحكومة التركية. لهذا يتم أحياناً التركيز على بعض السلبيات التي خلّفها اللجوء السوري وتضخيم هذه الآثار. مع تغاضٍ كبير عن الإيجابيات.

 

ولذلك يحاول المتعصبون ضد الوجود السوري تصوير اللجوء السوري على أنه سلبي من حيث الأثر. بينما المتعاطفون مع  السوريين يسعون لتصويره على أنه إيجابي. وهنا لا بد من التجرد من العواطف والانتماءات والحكم على الأثر الحقيقي للسوريين بمنهج علمي قويم.

 

بالطبع تشير العديد من الدراسات التي اهتمت بأوضاع اللاجئين السوريين في تركيا إلى التأثير الكبير للعمال السوريين في سوق العمل التركي. فمع حركة اللاجئين انتقلت شريحة كبيرة من القوى العاملة السورية إلى تركيا. حتى أصبح السوريون يمثلون ما نسبته 2.9٪ من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل بالبلاد وفقاً لإحصاءات الحكومة التركية.

 

من هنا تقول منظمة العمل الدولية بأن عدد العمال السوريين بلغ عام 2018م أكثر من 1,17 مليون عامل. وهذا الرقم يعني أن ما يقارب من ثلث السوريين منتجون. وهذا ما يدحض فكرة أن السوريين يعيشون على المساعدات فقط. وهذا الرقم يدل على معدل إنتاجية مرتفع جداً ويفوق نِسباً عالمية عدة.

 

في الواقع يتركز العمال السوريون بشكل عام في العديد من القطاعات ومجالات الصناعة. خصوصاً الورش الصناعية ومشاغل الألبسة والأحذية بنسبة تتجاوز الـ50%. أما باقي النسبة فتعمل في قطاعات البناء والشركات وغيرها. بالإضافة إلى العمالة المستقلة التي تعمل في المجالات الحرفية مثل السباكة والنجارة وغيرها. ثم المطاعم والمخابز وصيانة السيارات. إضافةً إلى العمل في مجالات التعدين ونقل وبيع الفحم والزراعة. علاوة على العمل بنِسَب بسيطة في مجالات الإعلام والتعليم وغيرها.

 

ما أبرز صور معاناة العمالة السورية في تركيا؟

المثير في الأمر أن العمالة السورية المنتشرة في القطاعات الاقتصادية المختلفة في تركيا تعمل في ظروف وبيئة صعبة. حيث تعمل بدون ضمان اجتماعي وبمرتبات زهيدة. مما يقلل كثيراً من تكلفة الإنتاج بالنسبة لربّ العمل التركي.

 

كما تشير الإحصائيات إلى أن 92٪ من العمال السوريين يعملون أكثر من 8 ساعات في اليوم (45 ساعة عمل أسبوعياً). من بينهم 59٪ يعملون أكثر من 65 ساعة أسبوعياً. دون الحصول على التعويض العيني المتناسب عن العمل الإضافي أو الحصول على حدّ مقبول من الإجازة أو الحقوق القانونية.

 

علاوةً على ذلك فهناك 75٪ منهم يتقاضون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور. على الرغم من أن هناك عمالاً مؤهلين تأهيلاً عالياً يحملون شهادات جامعية بنسبة 20% من إجمالي العاملين السوريين.

ما آثار رحيل اللاجئين السوريين على القوى العاملة في تركيا؟

بصفة عامة تركت العمالة السورية أثرها على الاقتصاد التركي بشقيه الكلي والجزئي. فأرباب العمل الأتراك استفادوا من خبرة وجهد العمال السوريين. وتضاعف الإنتاج وتعاظم الربح وازداد التصدير. وهو ما ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في تقليل الضغط على الليرة التركية.

 

من ناحية أخرى فإن السوريين يحتلون المرتبة الأولى في تأسيس الشركات في تركيا. ولذلك قال وزير التجارة التركي في عام 2020م: إن عدد الشركات المملوكة للسوريين في تركيا بلغ 13880 شركة. بنسبة 2٪ من الشركات المملوكة للأجانب في البلاد. برأسمال 4 مليارات ليرة ما يعادل (480 مليون دولار).

 

تقول دراسات تركية عدة حكومية ومستقلة بأن الأثر الاقتصادي للسوريين إيجابي على الاقتصاد التركي الكلي والجزئي. ففي دراسة أعدّتها غرف التجارة والصناعة التركية تبيّن أن السوريين وحتى مطلع عام 2018م أسّسوا أكثر من 10 آلاف شركة في تركيا. وتتقاطع هذه النتائج مع أبحاث مؤسسة البحوث الاقتصادية “TEPAV”.

 

في دراسة أخرى أعدتها “مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية التركية”. تبين أن 55.4% من الشركات السورية العاملة في تركيا تصدر إنتاجها إلى الخارج. فهي تساهم بشكل مباشر في توفير القطع الأجنبي للاقتصاد التركي. وبالتالي تساهم في دعم الليرة التركية. وفي تقارير أخرى فإن السوريين يساهمون في الاقتصاد التركي بنصف مليار دولار سنوياً.

 

تقدّر نسبة الشركات السورية في تركيا مقارنةً بإجمالي الشركات الأجنبية العاملة في البلاد بـ 2.4%. وهي نسبة جيدة. وتقدّر القيمة السوقية لهذه الشركات بـ 3,5 مليار دولار. هذا فيما يخص قيمتها السوقية. فإنتاج هذه الشركات ومساهمتها في الناتج المحلي التركي الإجمالي يُعتبر داعماً مهماً للاقتصاد التركي.

 

إن وجود أكثر من 3 ملايين سوري في تركيا ساهم في تكليف الحكومة التركية أعباءً إضافية. وساهم في استهلاك البنى التحتية. لكنه من جهة أخرى ساهم بشكل مباشر في تعزيز الطلب الكلي في الاقتصاد التركي. ومما لا شك به أن تحفيز الطلب الكلي يعتبر حجر الأساس في تنشيط أي اقتصاد.

 

ما صعوبات ترحيل اللاجئين السوريين من الناحية الإنسانية؟

بالإضافة إلى التبعات الاقتصادية المترتبة على ترحيل اللاجئين السوريين على مستوى الاقتصاد التركي. فإن لهذا الأمر تبعات إنسانية. وهو ما يعني رفع أصوات الاحتجاج لمنظمات حقوق الإنسان المحلية في تركيا والدولية أيضاً. وهو ما سوف يتسبّب بضرر كبير لصورة تركيا على الصعيد الإنساني الدولي.

 

وفي ذات الصدد وقّعت تركيا اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي عام 2018م للحد من الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا. وعقب توقيع تلك الاتفاقية نشطت المكاتب الخارجية التي تعتمدها السفارات التركية في البلدان العربية والأوروبية لإصدار الفيزا التركية.

 

من جهة أخرى أشار بعض الكُتاب والصحفيين الأتراك حينها إلى أن تلك الإجراءات أمر متداخل مع القرار السياسي. وذلك في إشارة منهم إلى الشروط الأوروبية على تركيا في سبيل الحد من الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.

 

بصفة عامة لقد كان لتلك الإجراءات مفعول السحر حينها على سعر الليرة التركية. حيث استثمر الكثير من السوريين بالأسواق التركية وقاموا بشراء العقارات. وكان هذا أحد الحلول السريعة لأزمة الليرة التركية في تلك الفترة.

 

وعلى الرغم من أن الإدارة التركية أكدت مراراً وتكراراً أنها أنفقت نحو 40 مليار يورو لرعاية اللاجئين السوريين في السنوات الماضية. إلا أن هناك العديد من الأرقام الأخرى التي تشير إلى فوائد اقتصادية متعدّدة للوجود السوري على الأراضي التركية.

 

ومن هنا فإن الترويج لفكرة ترحيل اللاجئين السوريين يبدو مستحيلاً على الأرض ومكلفاً للغاية من الناحية الاقتصادية. فمن سيرحل من السوريين.. رجال الأعمال المحميون بالقوانين التركية؟ أم العمال الذين يعدون العمود الفقري للاقتصاد ويديرون آلاف الورش والمصانع التركية؟

شَارِك المَقَال