يعتبر لبنان امتداداً طبيعياً وديمغرافياً وتاريخياً وحتى سياسياً لسوريا. وهو ما جعل أي ازدهار أو انحدار في أحد البلدين ينعكس وبشكل مباشر على البلد الآخر. وهو ما ظهر بشكل جلي خلال سنوات الحرب السورية. ويظهر أيضاً مؤخراً من خلال التنافس الأمريكي الإيراني على النفوذ في لبنان. والسؤال هنا: ما أثر التنافس الأمريكي الإيراني في لبنان على الاقتصاد السوري؟
في الواقع تتأثر كل الدول باقتصادات الدول المجاورة لها بشكل أو بآخر. ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في الحالة السورية. فسوريا ومن حيث الموقع الجغرافي تعتبر دولة محورية في الشرق الأوسط. فالحرب فيها أثرت على صادرات تركيا عن طريق البر إلى دول الخليج العربي. كما أثرت على صادرات وواردات لبنان.
يعتبر لبنان دولة ذات حرية اقتصادية واسعة مقارنة بالاقتصاد المركزي والمقيد في سوريا. لا سيما على صعيد الخدمات المالية والمصرفية. وهذا ما جعل لبنان طيلة الحرب السورية متنفساً مالياً لحكومة النظام وحتى على مستوى الأفراد والشركات الذين استعانوا بالمصارف اللبنانية للإيداع. أو لقيام بعمليات التحويل الخارجية.
من جهة أخرى لا يملك لبنان أي اتصال بري مع دول العالم إلا من خلال سوريا. كما أن فقر لبنان بالبنية التحتية وبحوامل الطاقة جعله يعتمد بنسبة كبيرة على سوريا في مدّه بالكهرباء. وهو ما سبّب أزمة طاقة في لبنان بعد اندلاع الحرب في سوريا.
يظهر التداخل العميق بين اقتصادي سوريا ولبنان من خلال تأثر حكومة النظام والسوريين بشكل عام بالأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان. حيث سببت تراجعاً حاداً في قيمة الليرة السورية. لا سيما أن هذه الأزمة تزامنت مع قانون قيصر وما تضمنه من عقوبات صارمة على النظام السوري وعلى الجهات المتعاونة معه.
في الحقيقة أدّى تفجير ميناء بيروت إلى تصاعد أزمة لبنان بشكل حاد. وهو ما انعكس سلباً على النظام كونه كان يعتمد على حلفائه في لبنان لتزويده باحتياجاته من خلال التهريب. إلا أن خروج الميناء عن الخدمة سبّب تحوّل الحلفاء اللبنانيين من داعمين اقتصادياً للنظام إلى محتاجين للدعم.
سعت الولايات المتحدة لعرقلة أي حلول في لبنان لزيادة الضغط الشعبي على حزب الله. لا سيما أن شريحة واسعة من اللبنانيين ترى أن للحزب دوراً في الأزمة من خلال سياساته الداخلية والخارجية. كما أنهم يرون أن إحجام المجتمع الدولي عن مدّ يد العون لبنان سببه وجود الحزب في الحكومة اللبنانية.
يتضح للمتتبّع للواقع اللبناني أن هناك رغبة أمريكية خليجية في عدم تشكيل حكومة في لبنان. وذلك لإبقاء البلاد في حالة شلل بهدف إحراج حزب الله داخلياً وخارجياً. وتهيئة الظروف اللبنانية الداخلية لتحجيم الحزب وربما السعي لإخراجه من الحكومة. أو على الأقل تخفيض تمثيله في الحكومة. إلا أن الحكومة تشكلت بين ليلة وضحاها!
يمثل لبنان حالة خاصة في الشرق الأوسط. ويشكل مرآة حقيقية للتوازنات السياسية الإقليمية. فعندما تتم الاستحقاقات الرئاسية والحكومية في موعدها يمكن الاستنتاج أن هناك توافقات إقليمية بين كبار اللاعبين وحتى الدوليين. والعكس صحيح. فلبنان أمضى عقوداً رهينة للتفاهمات السورية السعودية. وهذا قبل خروج سوريا من المعادلة الإقليمية بعد الحرب فيها.
إن الرغبة الأمريكية في استمرار الأزمة اللبنانية للضغط على حزب الله. والضغط من خلالها على حكومة النظام لم تكن كما خطط لها. فالعديد من القوى الإقليمية والدولية حاولت تعزيز وجودها من خلال هذه الأزمة وعلى حساب النفوذ الأمريكي. فإيران وفرنسا والصين تسعى لتعزيز حضورها في لبنان.
خلال أزمة المحروقات الأخيرة في لبنان أُعلن عن إمدادات نفطية متوقعة من العراق للبنان. ولكنها لم تبصر النور. وعلى ما يبدو فإنه تم تعطيل هذه الإمدادات من قبل إيران. بالمقابل أعلن حزب الله أنه سيتمكن من إخراج لبنان من أزمة المحروقات من خلال إمدادات إيرانية عن طريق البحر مروراً بالأراضي السورية.
كما أن الدخول الفرنسي وبقوة على المستوى السياسي والوعود بدعم مالي كبير في حال التوافق السياسي أثار حفيظة الأمريكيين. إضافة للسعي الصيني المستمر للاستحواذ على عقود ترميم ميناء بيروت والذي يشكل أهمية استراتيجية للصين. كل هذه المعطيات أدت لتغيير المخططات الأمريكية بالكامل وبسرعة قياسية.
بعدما ساد مناخ عام يشي بعدم إمكانية تأليف الحكومة اللبنانية لا سيما بعد اعتذار الرئيس المكلف سعد الحريري. فجأة تم الإعلان عن ولادة الحكومة العتيدة. وفي ذات الوقت طرح مشروع مد لبنان بالكهرباء والغاز من مصر عبر الأردن وسوريا. وفي ذات الوقت تم الإعلان عن منح لبنان حصته من حقوق السحب الخاصة التي تم توزيعها مؤخراً والبالغة مليار ومئة وخمسة وثلاثون مليون دولار(1,135).
مما لاشك به أن مشروع الغاز هذا ما كان ليبصر النور لولا مباركة أمريكية. فهذا المشروع هو السبب الرئيس لحسم معركة درعا لصالح النظام. كما أن أمريكا رأت أن منح النظام بعض المكاسب الاقتصادية من خلال هذا المشروع تُعتبر تكلفة استراتيجية أقل من وقوع لبنان بالكامل في القبضة الإيرانية.
في الواقع لم يتم حتى الآن تحديد المقابل الذي سيحصل عليه النظام مقابل سماحه بتشغيل خط الغاز العربي في أراضيه. وهذا المكاسب مما لا شك به أنها ستدعم واقع المحروقات والطاقة في مناطق سيطرة النظام. ولكن لِمَ تغاضت الولايات عن قانون قيصر وسمحت بحصول النظام على مكاسب؟ على الرغم من عدم تقديم أي تنازلات حقيقية.
تدرك الولايات المتحدة أن مزيداً من السيطرة الإيرانية في لبنان سيجعل لبنان ساحة إيرانية بالكامل. وهو مما سيسبب إضعاف خصوم حزب الله. ولذلك كان لا بد من تقديم بعض التنازلات الاقتصادية للنظام في سوريا مقابل مكاسب استراتيجية في لبنان.
إن المكاسب الاقتصادية التي سيحصل عليها النظام من مشروع الغاز لن تكون بالقدر الذي يغير المعادلة الاقتصادية في البلاد. فهذه المكاسب قد تحسّن واقع الخدمات لكنّها أعجز من إحداث تغيير اقتصادي حقيقي. وهنا لا بد من التأكيد على أنه لا يمكن البناء على هذا المشروع والقول بأن التعامل الأمريكي مع حكومة النظام قد تغيّر.
إن التساهل الأمريكي مع حكومة النظام والسماح بحصوله على مكاسب اقتصادية لا يرتبط بالملف السوري. بل هو قضية لبنانية بالكامل. وهو في إطار التنافس الأمريكي الإيراني. لذلك لا يمكن القول بأن هناك تحولاً استراتيجياً أمريكياً تجاه النظام. فهذا الأمر لا يعدو أن يكون خطوة تكتيكية ليس إلا.
إن التداخل السوري اللبناني يحتّم ربط الملفات ببعضها. ولذلك فإن أي سياسة دولية أو إقليمية مع أي من البلدين لا يمكن أن تنجح في معزل عن البلد الآخر. وربما هذا التداخل يسبّب مغانم ومغارم إلا أن مغارمه أكثر. وبالتأكيد فإن متحملي المغارم بالدرجة الأولى هم السوريون واللبنانيون. وتبقى الأطراف السياسية في منأى عن أيّ مغرم.