يعد إعلان إفلاس لبنان الحدث الاقتصادي الأهم في تاريخ لبنان. وعلى الأغلب لن تقتصر نتائج هذا الحدث على القطاع المالي والاقتصادي. فمن المتوقع أن تصل ارتداداته للبيئة السياسية اللبنانية. وقد لا يتمكن لبنان من الخروج من هذه الآثار لمدة طويلة. وهذا ما يطرح تساؤلات مهمة حول الأسباب الحقيقية لهذا الإفلاس وحول النتائج المترتبة عليه. والسؤال الأبرز هنا: ما أسباب ونتائج إعلان إفلاس لبنان؟
يعد الإفلاس من المصطلحات الاقتصادية الشائعة. وهو مفهوم عام يشمل الأفراد والشركات والدول. وفيما يخص إفلاس الدول فهو يشير إلى عدم قدرة الحكومة على سداد ديونها الخارجية والداخلية. وعدم قدرتها على القيام بالتزاماتها المالية. كدفع الرواتب والأجور والإنفاق على القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والبنية التحتية.
عادةً ما يشار لإفلاس الدول بالإفلاس السيادي. وقد يكون إفلاساً كلياً أو جزئياً. وقد يكون معلناً أو غير معلن. وعادةً ما تلجأ الحكومات لإعلان الإفلاس لتجنّب ضغط الدول الأجنبية عليها في قضية سداد الديون. كما يعد إعلان الإفلاس أداة فعّالة لطلب العون من المنظمات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
يعد إعلان الإفلاس حلاً للمشكلات الاقتصادية وإنقاذاً لما يمكن إنقاذه. فهو وسيلة علاج لتفاقم مشكلة الديون. فتبدأ الدول المدينة بالبحث عن حلول والتفاوض لإعادة هيكلة السداد. فخلال القرنين الماضيين أعلنت 50% من دول أوروبا و40% من دول إفريقيا و30% من دول آسيا إفلاسها. كما أعلنت دول عظمى كالولايات المتحدة وألمانيا واليابان والمملكة المتحدة والصين إفلاسها.
لا تُفلس الدول نتيجة سبب واحد. ولا يحدث الإفلاس خلال مدة قصيرة. بل هو تراكم لسياسات مالية قد تستمر لسنوات طويلة. فلبنان ومنذ سنوات طويلة يعاني من أزمات مالية بلغت ذروتها في عام 2019م. وخلال الحكومات المتعاقبة بعد الحرب الأهلية استمر الدين الخارجي بالتعاظم دون القدرة على إيجاد حل فعلي له.
في الحقيقة يعد الفساد السياسي أحد أسباب الفساد الاقتصادي الذي أرهق الدولة اللبنانية. فوجود دُوَل داخل الدولة اللبنانية حدَّ من القدرة على تطبيق سياسة مالية واضحة. كما أن الولاءات الطائفية السياسية شكَّلت حماية للسياسيين في لبنان. وحالت دون القدرة على محاسبة الفاسدين منهم. وهو ما عزَّز من أزمة الدولة اللبنانية.
من جهة أخرى تشكّل القضية السورية أحد العوامل الاقتصادية الضاغطة على لبنان. فسوريا ممر اقتصادي بري وحيد للبنان. وتعطل هذا الممر سبّب تراجع تجارة الترانزيت وتراجع الصادرات اللبنانية. خاصةً إلى العراق ودول الخليج. وهو ما أرهق الخزينة العامة للبلاد.
كما أن تفجير ميناء بيروت عام 2020م شكّل صدمة اقتصادية للبلاد. فعبره يمر 80% من صادرات البلاد. ويُدِرّ دخلاً سنوياً قدره 350 مليون دولار. فخروجه عن العمل سبَّب صدمة اقتصادية وتراجعاً حاداً في الإيرادات المالية للبلاد. في ظل ارتفاع النفقات الحكومية نتيجة التضخم المحلي والعالمي.
من ناحية أخرى قامت المصارف اللبنانية خلال العقد الأخير باستقطاب رؤوس الأموال المحلية أو السورية من خلال فوائد مرتفعة وغير منطقية. وجزء كبير من رؤوس الأموال هذه تم تهريبها لاحقاً خارج البلاد بعد الحصول على فوائد ضخمة. فبعض كبار المودعين ضاعفوا إيداعاتهم بنسبة 100% خلال 5 سنوات. وهو ما أرهق القطاع المصرفي نتيجة سحب الفوائد والأصول وإخراجها خارج البلاد.
في الواقع إن تعامل المصارف اللبنانية مع الإيداعات الجديدة والفوائد يماثل خدعة “بونزي” مؤسس فكرة التسويق الهرمي. فالمصارف اللبنانية كانت تمنح فوائد مرتفعة لاستقطاب إيداعات جديدة لتتمكن من خدمة الإيداعات القديمة. وهو ما سبَّب تراكماً للخسائر. وسبَّب ربحاً فاحشاً لفئات قليلة مقابل إفلاس غالبية المودعين الجدد.
خلال السنوات السابقة فرض البنك المركزي اللبناني قيوداً على سحب الودائع من البنوك اللبنانية. خاصةً المقوّمة بالدولار. وحالياً من المؤكد أن عمليات السحب سيتم إيقافها بالكامل. فسابقاً كانت السقوف العليا للسحب تبلغ 300 دولار أسبوعياً. وحالياً سيتوقف هذا الأمر. مما يعني نقصاً حاداً في عرض الدولار. وبالتالي انهياراً حاداً في قيمة الليرة.
بالإضافة إلى ذلك من المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة والفقر بسرعة كبيرة في لبنان. وهو ما يهدد باضطرابات سياسية ومظاهرات. ومن المتوقع أيضاً ألا تتم الانتخابات النيابية المقبلة في ظل هذه الظروف. وقد تزداد حدة الانقسامات والتوترات الطائفية. ناهيك عن ضرر بعيد المدى بسمعة لبنان المالية الذي كان لعقود طويلة يُلقّب بسويسرا الشرق.
كما قد يكون الإفلاس فرصة لدول أخرى لزيادة الهيمنة على الدولة اللبنانية. لا سيما مِن قِبَل إيران. وذلك في ظل انكفاء سعودي عن مَنح أيّ تمويل للحكومة في ظل التوغل الإيراني. وهو ما سيُعقّد المشهد الداخلي وقد ينتهي بفراغ سياسي جديد خلال السنوات المقبلة.
تسعى الحكومة اللبنانية أن يكون إعلان الإفلاس خطوة أولى في طريق الحل. من خلال السعي لجدولة ديون لبنان الخارجية. إضافة للحصول على دعم من صندوق النقد الدولي. والذي لن يقدم دعمه إلا في ظل تعهدات لاتباع سياسة مالية محددة.
غالباً ما يشترط صندوق النقد اتباع الحكومات سياسة تقشفية حادة. وزيادة معدل الضرائب. وخصخصة القطاعات. والتخلي عن سياسات الدعم الاجتماعي وغيرها. وهو ما يعني مزيداً من الضغط على الشرائح الأكثر فقراً في لبنان.
إن الحل في لبنان لن يتم إلا في ظل حل سياسي. خاصةً في ظل سيطرة فئات محددة على القرار اللبناني. فالحل الاقتصادي لا يمكن أن يتم إلا بالتوازي مع حل سياسي. وهو على ما يبدو ليس في متناول اليد على الأقل في السنوات القليلة القادمة.
في النهاية لن يكون أمام لبنان من حلّ إلا الاعتماد على قرض من صندوق النقد الدولي. علمًا بأن عمليات الإنقاذ السابقة التي قامت بها فرنسا بشكل أساسي. وتكررت ثلاث مرات. وكان آخر بقرض ميسر بقيمة 11 مليار دولار. تضمنت قائمة إصلاحات اقتصادية لم تُنفَّذ أبدًا. أما الدعم السعودي فهو مُعلّق أيضًا بسبب ما تَعتبره الرياض موالاة لبنانية لإيران.