غالباً ما تؤدي الحروب لا سيما الداخلية منها إلى تغييرات بنيوية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. كما تطال التغييرات الثقافة الجمعية ومنظومة القيم. وفيما يتعلق بالحرب السورية فقد تركت آثارها بشكل حاد على المنظومة الاقتصادية والاجتماعية. ومن أهم التغييرات ظهور طبقة برجوازية ذات صبغة اجتماعية واقتصادية. والسؤال: ما العلاقة بين الحرب ونشوء الطبقة البرجوازية السورية؟
في الحقيقة يعتبر مفهوم البرجوازية من المفاهيم القديمة نسبياً. ويحمل دلالة اقتصادية واجتماعية. تعود جذور هذا المفهوم إلى القرن الخامس عشر. ويشير إلى الطبقة الاجتماعية التي تمتلك أدوات الإنتاج ولها سيطرة واسعة وتأثير واضح على مراكز صنع القرار السياسي.
يمكن القول بأن مفهوم البرجوازية من المفاهيم المختلَف عليها بين من ينظر إليها نظرة سلبية وأخرى إيجابية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن البرجوازية هي المفكر والمدبر للثورة الفرنسية بالتعاون مع طبقة العمال والفلاحين.
ساهمت الطبقة البرجوازية في أوروبا في تأسيس النظام الرأسمالي وحمايته. كما لعبت دوراً رئيساً في الضغط على الطبقات الفقيرة واستغلالها. وهذا ما حاولت النظم الاشتراكية كالاتحاد السوفييتي سابقاً التركيز عليه في إطار صراعها الأيديولوجي مع النظم الرأسمالية.
إن السلبية الاجتماعية والقمع الطبقي الذي مارسته البرجوازية الأوروبية لا يجب أن يمنع الحكم الموضوعي عليها. فعلى الرغم من سلبيتها الاجتماعية إلا أنها تعتبر المحرك الرئيس للنهضة الأوروبية. والداعم الأهم على الإطلاق للثورة الصناعية والتطور العلمي والتكنولوجي. وذلك استناداً إلى قدرتها المالية وتحكمها السياسي وتركّز رؤوس الأموال في أيديها.
تختلف النظرة للبرجوازية تبعاً للخلفية الأيديولوجية. فغالباً ما تصوّرها النظم الاشتراكية على أنها وحش اجتماعي. والنظم الرأسمالية تراها أمراً لا بد منه. فكارل ماركس يرى البرجوازية أمراً طبيعياً في ظل نظريته القائمة على الصراع الطبقي ودوره في التطور الاجتماعي. فهو يرى أن البرجوازية شر لا بد منه. ويرى أن الصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة هو المولّد الحقيقي للتطورات الاجتماعية والاقتصادية.
ظهرت البرجوازية السورية منذ عهد الحكم العثماني. وإن كان وجودها خجولاً. واقتصر على بعض المتنفذين المقربين من الولاة العثمانيين. وفي ظل الانتداب الفرنسي بقيت هذه البرجوازية ضعيفة نسبياً. وذلك لضعف النشاط الاقتصادي العام في البلاد.
فترة الاستقلال وما تلاها تعتبر الولادة الحقيقية للبرجوازية السورية. إلا أنها تعرضت لانتكاسة حادة في ظل الوحدة بين سوريا ومصر وصدور قرارات التأميم والإصلاح الزراعي. لاحقاً وفي ظل حكم البعث تم مهاجمة البرجوازية فكرياً وعقائدياً وتم التعامل معها سراً كأمر واقع.
تعامل البعث مع البرجوازية من منطلق براغماتي. فهو هاجمها علناً وتبناها سراً. أدرك البعث لا سيما في ظل حكم الأسد الأب أن إرضاء البرجوازية أمر لا بد منه لضمان الاستقرار السياسي لنظامه. لذلك تم رفع شعارات داعمة للعمال والفلاحين. ولكن في الحقيقة لم يتم تطبيق هذه القوانين. وفي أفضل الأحوال تم تطبيقها مع ضمان عدم تضرر الطبقة البرجوازية.
يقول “باتريك سيل” في كتابه “الصراع على الشرق الأوسط”: إن الأسد الأب أدرك بدقة أهمية مصالح الطبقة البرجوازية كداعم له. وفي ذلك الوقت تركزت الطبقة البرجوازية في دمشق وحلب بشكل رئيس. لذلك كان يُؤخذ بعين الاعتبار مصالحهم عند تعيين رئيس حكومة في سوريا.
في ظل حكم الأسد الابن تم دعم الطبقة البرجوازية بشكل علني. وذلك من ضمن سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسة اقتصاد السوق الاجتماعي. وخلال العقد الأول من حكم الأسد الابن نجحت البرجوازية السورية في النهوض بالاقتصاد السوري.
ظهر نجاح البرجوازية السورية خلال العقد الأول من حكم الأسد الابن من خلال الانتعاش الاقتصادي الذي ساد البلاد. وظهر هذا الأمر بتحسن مستوى الدخول ومستوى المعيشة. إلا أنه كان تحسناً انتقائياً. حيث تم توجيه غالبية الدعم للمراكز الحضرية وعلى رأسها حلب ودمشق مقابل تحسن ضعيف نسبياً على مستوى الأرياف. وهو ما سبب تمايزاً طبقياً. ويعتبر أحد الأسباب غير المباشرة للثورة السورية.
بعد تحول الثورة السورية إلى حرب داخلية ذات إسقاطات إقليمية هاجرت غالبية الطبقة البرجوازية السورية إلى الخارج. لا سيما إلى تركيا ومصر. حيث تركزت غالبية رؤوس الأموال السورية في هذين البلدين. وهو ما سبّب انهياراً شبه كامل للبرجوازية السورية.
في ظل الحرب الدائرة في سوريا ظهر اقتصاد الحرب بقوة. وهو ما ولّد مجموعة أمراء الحرب الذين تحوّلوا خلال فترة قياسية إلى طبقة برجوازية محدثة النعمة. لكنها طبقة لا تربطها بالبرجوازية إلا تركز رؤوس الأموال. أما من الناحية الفكرية والاجتماعية فلا قواسم حقيقية.
استخدمت البرجوازية الحديثة من محدثي النعمة وأمراء الحرب ثرواتها ونفوذها العسكري والسياسي لتغيير بنية الاقتصاد السوري وتحويله بشكل أكبر لاقتصاد الحرب. كما سعت هذه الطبقة لمراكمة المزيد من رؤوس الأموال من خلال السلب والسرقة. وهو ما أساء للنشاط الاقتصادي العام وأدى لدمار ما تبقى من الاقتصاد السوري.
سعت البرجوازية السورية المحدثة بعد الانتهاء من مراكمة رؤوس الأموال إلى التسويق لنفسها اجتماعياً وسياسياً من خلال المبادرات الخيرية وتوزيع الأغذية وتمويل عمليات جراحية وغيرها. وهو ما أدّى لتسمية بعضهم بـ “أبو الفقراء”. وبدأ محدثو النعمة هؤلاء بالتنافس فيما بينهم على الظهور الاجتماعي.
تسعى البرجوازية السورية المحدثة إلى تمكين نفسها اجتماعياً وسياسياً تمهيداً لمحو إرثها الأسود والتهيؤ لدخول عالم السياسة. من خلال العمل لدخول بعض المنظمات السياسية أو الدخول إلى مجلس الشعب أو أي نشاط سياسي آخر.
كما أسلفنا فإن البرجوازية العالمية لا سيما الأوروبية ساهمت بشكل مباشر في النهضة الاقتصادية والعلمية والثقافية. فالثورة الصناعية في أوروبا قامت بجهود الطبقة البرجوازية. كما أن غالبية القفزات الاقتصادية تمت من خلال مراكمة رؤوس أموال البرجوازيين.
لا يجب أن تفهم الإشادة بإنجازات البرجوازية على أنها تبرير لبعض ممارساتها الاجتماعية السلبية. لكن إنجازاتها الاقتصادية تغطي وتخفف من تبعات ممارساتها الاجتماعية السلبية. فعلى سبيل المثال: تقول بعض النظريات حول نشوء وادي السيليكون في أمريكا بأنه نتاج البرجوازية السوداء. والتي سعت من خلاله لتبييض أموالها. وانتهى الأمر بظهور أضخم مشروع تكنولوجي في العالم.
إن البرجوازية السورية المحدثة لم تقم إلا بالدور السلبي اجتماعياً وعسكرياً واقتصادياً. فهي لم تسعَ لاستثمار مالها الأسود في مشاريع اقتصادية. بل دأبت على تعزيز الفوارق الطبقية لا سيما في ظل معدلات الفقر المرتفعة والتهديد بالمجاعة.
إن الخلفية النظرية والبنية الاجتماعية للبرجوازية السورية المحدثة تجعلها سلبية بالمطلق. لذلك لا يمكن أن يرتجى منها أي دور إيجابي. لذلك لا بد من الحد من انتشارها وهيمنتها على المجتمع السوري. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال حل سياسي يقوّض أسس دعمها السياسي والعسكري.