بعد أربعة أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا يبدو المشهد الاقتصادي العالمي عموماً والروسي والأوروبي خصوصاً بالغ التعقيد. فالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو يبدو أنها طالت العالم كله. وهو ما يحتّم إجراء تقييم عام وشامل للواقع الاقتصادي الحالي وتحديد المسارات المستقبلية المتوقعة له. والسؤال هنا: ما تقييم الواقع الاقتصادي بعد أربعة أشهر على الحرب الروسية الأوكرانية؟
فرض الغرب حزمة عقوبات اقتصادية حادة على روسيا للضغط عليها للتراجع عن غزوها لأوكرانيا. إلا أن الأمور لا تسير كما خُطّط لها. فعلى الرغم من الضرر الواضح الذي سببته العقوبات على الاقتصاد الروسي إلا أنها لم تحقق الأهداف المخطط لها.
رغم تجميد أكثر من 300 مليار دولار لموسكو في بنوك الغرب وعزل بعض البنوك عن نظام سويفت ومغادرة شركات أجنبية لروسيا… إلا أن الاقتصاد الروسي ما زال متماسكاً وقادراً على مواجهة العقوبات. بل حقق بعض النتائج الإيجابية على مستوى قيمة الروبل ومعدل التضخم وحقق فائضاً في ميزان المدفوعات.
سببت العقوبات على روسيا ارتفاعاً عالمياً كبيراً في أسعار النفط والغاز. وهو ما انعكس إيجاباً على الاقتصاد الروسي. فازدادت عوائد روسا من صادرات النفط والغاز. وهو ما عزّز من فائض الميزان التجاري لديها. وبالتالي زيادة قدرتها على تمويل مجهودها الحربي.
وصل فائض الميزان التجاري الروسي خلال الثلث الأول من العام الحالي لـ 96 مليار دولار. أكثر من ثلاثة أضعاف الفترة نفسها من عام 2021م. ولا تجد روسيا صعوبة في إيجاد أسواق بديلة لطاقتها. حيث ارتفعت صادراتها من النفط إلى الصين بأكثر من 50% على أساس سنوي.
من جهة أخرى تمتلك روسيا مخزونات ضخمة من السلع الأساسية للحفاظ على استمرارية اقتصادها لأطول فترة من الوقت. وكذلك يمكنها العثور على مصادر بديلة لقطع الغيار من الدول الراغبة في الالتفاف على العقوبات الغربية.
على المستوى الأوروبي فإن ارتفاع أسعار النفط والغاز سبّب ارتفاعاً إضافياً في معدلات التضخم. ووصل معدل التضخم السنوي في بريطانيا لـ 9% كأعلى مستوى له منذ 40 عامًا. وارتفع سقف أسعار الطاقة بمقدار 700- 800 جنيه إسترليني على أساس سنوي. وارتفعت تكلفة المعيشة خلال الأربعة شهور الماضية.
كل هذه التداعيات الاقتصادية الحادّة التي أصابت أوروبا دفعت بعض البريطانيين للخروج في مظاهرات ضد غلاء المعيشة. وفي فرنسا ارتفعت أسعار الوقود بنسبة 26.6%. وبصفة عامة يُتوقع أيضًا ارتفاع نسبة البطالة واحتمالات الركود التضخمي في أوروبا بنهاية العام الحالي.
الخسائر الأوروبية لا تقتصر على الاقتصاد فقط. بل تمتد إلى البيئة التي تعهد الغرب بحمايتها وأبرم العديد من الاتفاقيات من أجل خفض معدلات التلوث وتحقيق الاستدامة البيئية. حيث قررت النمسا العودة لاستخدام الفحم أحد أكبر ملوثات البيئة للحصول على الكهرباء بعد نقص واردات الغاز من روسيا.
في الحقيقة لقد طالت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا العالم أجمع. من خلال تعمق أزمة سلاسل التوريد. وتفاقم أزمة التضخم العالمي. وتراجع النمو الاقتصادي العالمي من 5.7% عام 2021م إلى 2.9% في العام الحالي.
بالإضافة إلى مخاطر الفقر والمجاعة. فوفقاً لمجموعة البنك الدولي فإن 75 مليون شخص حول العالم يسيرون نحو مجاعة كاملة نتيجة توقف إمدادات القمح الأوكراني. كما تفاقمت أزمة الديون العالمية حيث أعلنت سريلانكا عدم قدرتها على السداد. ومن المتوقع ألا تكون الأخيرة.
مما لا شك به أن الاقتصاد الروسي يعد من المتضررين الرئيسين من العقوبات. إذ من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 8.9%. لكنه ليس الخاسر الوحيد. فحتى الجهات الفارضة للعقوبات طالتها آثار العقوبات. وهذا الأمر يمنح موسكو قدرة أعلى على المناورة السياسية والاقتصادية.
لذلك من غير المتوقع أن تتمكن العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا من التأثير على مجريات الحرب الروسية الأوكرانية. فالحرب والعقوبات تعد أخطر تهديد يواجه الاقتصاد العالمي حالياً.