تتعدد النظريات الاقتصادية بتعدد المدارس التي تناولت علم الاقتصاد. فبدءاً من النظرية الكلاسيكية مروراً بالماركسية بالكينزية والنقدية والكلاسيكية الجديدة أو الليبرالية والاشتراكية والاقتصاد الإسلامي. كل هذه النظم سعت لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. بعضها نجح والآخر أخفق. والآن يبرز تساؤل مهم يتمثل في أيّ من هذه النظريات الأكثر قدرة على النهوض بالاقتصاد السوري؟ وما مستقبل الاقتصاد السوري بين النظرية الليبرالية والكينزية؟
شهد علم الاقتصاد خلال القرون القليلة السابقة عدة نظريات ومدارس ساهمت في تطوير المفاهيم الاقتصادية. وإن اختلفت فيما بينها من ناحية مدة استمرارها ومدى قدرتها على إحداث تغييرات حقيقية في الاقتصاد العالمي. وبعضها تم فرضه بالقوة كالاقتصاد الشيوعي. والآخر سبّب آثاراً اجتماعية سلبية كالرأسمالية.
في الحقيقة تُعتبر النظريتان الكينزية والليبرالية أكثر النظريات الاقتصادية تأثيراً في الاقتصاد العالمي. فالنظرية الكينزية هي التي أخرجت العالم من أزمة الكساد الكبير عام 1929م. والليبرالية هي التي حررت الاقتصاد العالمي. وساهمت في النمو الاقتصادي الهائل الذي ساد العالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
يُعتبر جون مينارد كينز مؤسّس المدرسة الكينزية والتي سميت باسمه. والتي تعتمد بشكل رئيس على تحفيز النمو الاقتصادي من خلال الإنفاق الحكومي. وتقوم الكينزية أيضاً على سيطرة غير مباشرة للحكومة على الاقتصاد من خلال التحكم بسعر الفائدة والتحكم بالإنفاق العام.
تعتبر الليبرالية تطوراً للمدرسة الكلاسيكية التي أسسها أبو الاقتصاد آدم سميث. وتقوم الليبرالية على أن سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم الشخصية سيحقق بشكل غير مباشر مصالح المجتمع. وتقوم على حياد الدولة بشكل تام تجاه النشاط الاقتصادي. وتسمح للأفراد بالسعي لتحقيق الأرباح بغض النظر عن أي اعتبارات اجتماعية.
بصفة عامة لكل من النظريتين السابقتين محاسنهما وعيوبهما. فمن محاسن الكينزية أنها تلجم السوق ولا تسمح له بالخروج عن السيطرة التامة. وبالتالي تقلل من فرص حدوث الأزمات المالية والاقتصادية. إلا أن من مساوئها أنها تقلل ولو بشكل نسبي من الحرية الاقتصادية. مما قد يضعف معدلات النمو الاقتصادي. بالإضافة لتسببها في زيادة معدلات التضخم.
فيما يتعلق بالنظرية الليبرالية فمن محاسنها أنها تحرر الاقتصاد بشكل واسع. وتدعم معدلات النمو الاقتصادي وتحرر التجارة العالمية. وهو ما ينعكس إيجاباً على مختلف المؤشرات الاقتصادية. ولكن من مساوئها أنها تسمح بالتوحش الاقتصادي. وتسبّب نمواً انتقائياً تستفيد منه شرائح اجتماعية على حساب شرائح أخرى.
في الواقع سيطرت عدة مدارس متباينة على الاقتصاد السوري في فترات متباينة بعد الاستقلال. فعقب الاستقلال عانت سوريا من ضبابية اقتصادية كانعكاس مباشر للضبابية السياسية والتي تمثلت بالانقلابات المتكررة آنذاك. لاحقاً سيطر الاقتصاد الشيوعي في فترة الوحدة مع مصر وفي الفترات اللاحقة. وظهر هذا الأمر من خلال عمليات التأميم والمصادرة للمرافق الاقتصادية.
بعد سيطرة البعث على السلطة لا سيما بعد وصول الأسد الأب للسلطة سادت سوريا مدارس اقتصادية متناقضة. ففي العلن تبنّت سوريا الاقتصاد الاشتراكي. ولكن في السر كان الاقتصاد خليطاً من الاشتراكية والليبرالية. وهذا الخلط سبّب هواجس للمستثمرين تتعلق بمستقبل الاقتصاد السوري. لذلك تراجعت الاستثمارات بشكل واضح في تلك الفترة.
بعد تولّي الأسد الابن السلطة في سوريا عام 2000م اتجه الاقتصاد السوري بخطى واضحة نحو الليبرالية واقتصاد السوق. وتم تحرير الاقتصاد وهو ما انعكس بشكل مباشر على معدلات النمو والناتج المحلي الإجمالي ومستوى الدخل. ولكن عانى الاقتصاد السوري آنذاك من سلبيات الليبرالية والمتمثلة بالتنمية الانتقائية وغياب العدالة الاجتماعية.
في ظل الليبرالية التي سادت الاقتصاد السوري قبل عام 2011م شهدت المدن الكبرى نهضة اقتصادية واضحة. إلا أن المدن الصغيرة والأرياف تحملت سلبيات الليبرالية ولم تنعم بمحاسنها وهو ما سبّب فوارق طبقية واضحة في المجتمع السوري. وهو ما اعتبرته بعض الدراسات الغربية أحد أسباب الثورة عام 2011م.
تدل التجارب الاقتصادية العالمية على أن كل المدارس الاقتصادية لها مساوئ ومحاسن. ولذلك وللاستفادة من المحاسن والالتفاف على المساوئ لا بد من استخدام مزيج من المدارس الاقتصادية. ففي الوقت الراهن قلما يوجد اقتصاد يعتمد على مدرسة اقتصادية واحدة باستثناء بعض الدول الشمولية ككوريا الشمالية وكوبا.
إن بناء الاقتصاد السوري يحتاج للمواءمة بين الكينزية التي تقوم على تدخل الدولة في الاقتصاد وبين الليبرالية التي تقول بحياد الدولة. فعلى القائمين على الاقتصاد السوري الاستفادة من التجارب السورية السابقة. والعمل على بناء اقتصاد يحقق التنمية الاقتصادية ويحقق في ذات الوقت العدالة الاجتماعية.
في الحقيقة لا بد من استخدام الكينزية كوسيلة من وسائل زيادة الإنفاق الحكومي وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي. وتتيح الكينزية للدولة القيام بمسؤوليتها الاجتماعية تجاه مختلف الشرائح الاجتماعية. بينما تقوم الليبرالية بتحفيز وتحرير الاقتصاد وإعطاء حرية واسعة للمستثمرين ورجال الأعمال.
بصفة عامة يمكن المواءمة في الاقتصاد السوري بين الكينزية والليبرالية. من خلال المواءمة بين القطاع العام والخاص. فالقطاع العام يشكل حاضنة رئيسة للكينزية. بينما يشكل القطاع الخاص الحاضن لليبرالية.
إن الدعوات لتحجيم القطاع العام في سوريا هو دفع لهذا الاقتصاد باتجاه الليبرالية. وبالتالي غياب العدالة الاجتماعية. كما أن تحجيم القطاع الخاص يشكل دفع الاقتصاد نحو الجمود. لذلك لا بد من دعم كلا القطاعين بما يحقّق التوازن بين النمو الاقتصادي وبين العدالة الاجتماعية.
في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن المدارس الاقتصادية في أي دولة يمكن اعتبارها انعكاساً للنظام السياسي السائد. فلا يمكن تطبيق الليبرالية في ظل نظام سياسي شيوعي. لذلك يمكن القول بأن تطبيق المدارس الاقتصادية لا يمكن أن ينجح قبل بناء نظام سياسي تعددي.