بعد عام على التحرير، وتولّي الرئيس “الشرع” إدارة الدولة، يبدو المشهد الاقتصادي في سوريا أمام مرحلة يُعاد فيها ترتيب الملامح الأساسية للنفوذ والفاعلين، ليس عبر انقلاب اقتصادي أو تغيير جذري، بل من خلال عملية ضبط تدريجية تسعى إلى إعادة تنظيم الحقول التي ظلت لفترة طويلة محكومة بشبكات متداخلة من الوساطة والمصالح القائمة على النفوذ غير الرسمي.
يمكن القول: إن الإدارة الجديدة لم تكتفِ بالتعامل مع الواقع الراهن، بل تبنَّت نموذج إدارة مُنظَّم، يُرسِّخ آليات واضحة لاتخاذ القرار، ويُوجِّه الموارد نحو القطاعات القادرة على التشغيل السريع وتحريك النشاط الاقتصادي بشكلٍ فعَّال وملموس.
مسارات اقتصادية أكثر قابلية للقياس
كان لافتًا خلال هذا العام أن الاقتصاد بدأ يتحرَّك في مسارات أكثر قابلية للقياس. فبدل التعامل مع السوق بوصفه كتلة واحدة، أصبح هناك اهتمام بإحيـاء القطاعات ذات الأثر المباشر مثل الزراعة والصناعة الخفيفة والطاقة البديلة والنقل الداخلي.
هذه القطاعات التي تحتاج إلى استثمارات محدودة نسبيًّا استطاعت أن تُحْدِث تغييرًا في المزاج الاقتصادي العام، وتُخفِّف من حالة الركود، وتُعيد النشاط لأسواق المحافظات. كما بدا أن الإدارة تعتمد على خَلْق بيئة تنافسية أوسع، تُتيح لمجموعات جديدة من المستثمرين المحليين الدخول في السوق من خلال مبادرات وشراكات صغيرة، ما فتَح الباب أمام فاعلين لم يكن لهم حضور سابق.
إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي
التحوُّل الأبرز ربما يتمثَّل في تراجُع الوزن النِّسبي لشبكات الوساطة غير الرسمية. لم تختفِ هذه الشبكات، لكنّها فَقَدَتْ قُدرتها السابقة على احتكار مسارات التوريد أو التحكُّم بالعقود العامة. حصل ذلك ليس عبر الإقصاء المباشر، بل من خلال تقديم بدائل: نظام تعاقد أوضح، إجراءات رقابية أكثر انضباطًا، ومسارات استيراد وتوزيع أقل تعقيدًا. هذه الخطوات سمحت بخَلْق توازن جديد بين القوى التقليدية والشركات الحديثة التي تعتمد على الكفاءة التشغيلية وليس على العلاقات وحدها.
يبدو أن إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي لم تتَّجه نحو الاستبدال بقَدْر ما اتَّخذت شكل إعادة موازنة دقيقة. فالفاعلون التقليديون ما زالوا حاضرين، لكنْ ضمن حدود أكثر صرامة، في حين برزت إلى جانبهم شركات متوسطة الحجم تعمل في الخدمات اللوجستية والتقنيات الزراعية والطاقة البديلة. هذا الصعود لم يكن طارئًا، بل نتاج قناعة لدى الإدارة بأن تحريك الاقتصاد يحتاج إلى فاعلين يُقدِّمون قيمة تشغيلية حقيقية، لا مجرد دور الوساطة أو السيطرة على قنوات التوريد.
ضبط الإيقاع وتحديد اتجاهات الاستثمار
شهد العام الأول انفتاحًا محسوبًا على شراكات إقليمية، لكنْ بطريقة تحافظ على القرار الاقتصادي المركزي. فالإدارة الجديدة بَدَتْ حريصة على الاستفادة من الخبرات أو الاستثمارات الخارجية، مع الحفاظ على قدرة الدولة على ضبط الإيقاع وتحديد اتجاهات الاستثمار. هذا الأسلوب سمح بتدفُّق محدود لكنه منتظم للفرص، دون أن يفقد الاقتصاد استقلالية قراره.
إجمالًا، يمكن القول: إن العام الأول من إدارة “الشرع” لم يكن إعادة بناء كاملة للمشهد الاقتصادي، لكنّه شكَّل الأساس لمرحلة انتقالية تحاول فيها الدولة إعادة الإمساك بالخيوط الأساسية للتنظيم الاقتصادي، وموازنة النفوذ بين الفاعلين التقليديين والجدد، وخَلْق بيئة أكثر قابلية للعمل والإنتاج.
إذا استمرت هذه الدينامية، فمن المحتمل أن تتبلور خلال السنوات القادمة طبقة اقتصادية جديدة أكثر مهنية وأقل ارتباطًا بأنماط النفوذ التي سادت خلال سنوات الحرب، وهو ما قد يفتح المجال أمام نموذج اقتصادي أكثر واقعية وقدرة على الاستمرار.