في عام 1942، كانت أوروبا تحترق تحت ويلات الحرب العالمية الثانية، ولم تكن البنادق وحدها مَن يقرّر مصير الشعوب. غابت السلع الأساسية، وفرضت بريطانيا تقنيناً غذائياً قاسياً، بينما سعت أمريكا إلى مضاعفة إنتاجها الزراعي.
الدرس كان واضحاً: الحرب لا تَقتل فقط، بل تُجوِّع، وتكشف هشاشة البِنْيَة الاقتصادية مهما بدت قوية.
إعادة تعريف مفهوم الأمن الاقتصادي:
بعد أكثر من 80 عاماً، يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه، لكن بأسماء جديدة: أوكرانيا، غزة، السودان. فمنذ 2022، تتابعت الأزمات، وكلها تَركت بَصْمتها على الأسواق العالمية، من القمح إلى النفط، وأعادت تعريف مفهوم “الأمن الاقتصادي” كجزء لا يتجزأ من الأمن القومي.
الحرب الروسية الأوكرانية، مثلاً، أربكت حركة شحن القمح والأسمدة. روسيا وأوكرانيا كانتا تغطيان معاً نحو 30% من صادرات القمح عالمياً. بمجرد اندلاع الحرب، ارتفعت أسعار القمح بأكثر من 20%، وتجاوزت أسعار زيوت الطهي 23% في غضون أسابيع. أما أوروبا، فشهدت أعلى مستوى لأسعار السكر منذ تسع سنوات، بفعل ارتفاع تكاليف الطاقة.
هذا يُظهر أن الاعتماد العالمي على عدد محدود من الدول لتوفير السِّلع الإستراتيجية يجعل النظام الغذائي العالمي عُرضة لأدنى اضطراب. الهشاشة هنا ليست في الموارد، بل في تمركُّزها الجغرافي، وسهولة تعطيلها.
ليس العرض والطلب وحده مَن يُغيِّر الأسعار. الذُّعر يلعب دوراً كبيراً. مع تصاعد الحرب في غزة في أكتوبر 2023، قفزت أسعار النفط أكثر من 7%، رغم عدم وجود نقص فِعْلي. الأسواق اليوم لا تتحرك فقط بالأرقام، بل بالمخاوف والتكهنات. وكلما كانت منطقة النزاع قريبة من نقاط العبور العالمية أو مصادر الطاقة، زاد أثرها على حركة السوق.
في السودان، رغم أن البلاد لا تُصدّر سلعة استراتيجية كالنفط أو القمح، إلا أن النزاع الجاري فيها أثّر على مُنتَج حيوي عالمياً: الصمغ العربي. السودان يوفّر أكثر من 70% من هذا المكوّن الأساسي في الصناعات الغذائية والدوائية. ومع اشتداد الحرب، تعطّلت الإمدادات، وتراجعت الأسعار بنسبة 60%. مئات المزارعين خسروا مصدر دخلهم، والدولة فقدت واحداً من أهم مواردها.
هنا يتضح كيف أن الاقتصادات الهشّة، رغم دورها الحيوي في سلاسل الإمداد العالمية، لا تحظى بالحماية أو الاستثمار الكافي الذي يمنحها مناعة في الأزمات.
أوروبا أيضاً واجهت شتاءً صعباً في 2022 بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي، وقفزت أسعاره بأكثر من 200%. التأثير امتد إلى الصناعة والتدفئة وحتى النقل، لتصبح فاتورة الطاقة عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على المواطنين.
اليوم، لا تحتاج الأسواق إلى نقص فِعْلي كي ترتبك، يكفي التلويح بصراع جديد. السوق تتفاعل مع التوقعات أكثر من الواقع. الرأسمالية الحديثة قائمة على الاستباق، والمضاربة، وسرعة التأثر.
الخلاصة: الحرب تُطْلِق أكثر من الرصاص. تُطْلِق التضخّم، وتُشوِّه سلاسل الإمداد، وتُعيد تشكيل أولويات العالم. مَن ينتظر شحنة قمح، ومَن يلغي شراء الزيت، ومن يرى موسمه الزراعي يضيع، كلهم ضحايا حرب لم يحملوا السلاح.
البنادق تُسمَع، لكنّ أنين الأسواق لا يقلّ وجعاً. العالَم اليوم أمام سؤال مصيري: من يدفع الثمن؟ وإن لم تُحَلّ النزاعات دبلوماسياً، فقد نسمع قريباً في نشرات الأخبار أن الجوع هو القاسم المشترك الجديد بين الدول.